شعرية انفلات الذات من ذبول الآنيّ وتخشّبه في «تلالي تضيق بعوسجها» للأردنيّ عمار الجنيدي

أحمد الشيخاوي

إن المتأمل في معمار الشعرية التي انتهجها الشاعر المتألق عمار الجنيدي، عبر أجدد إصداراته عن وزارة الثقافة الأردنية حديثاً، لا شكّ سيلحظ إلى أيّ مدى، المنجز يلوذ بالمفردة الصافية المدغدغة لحواس التلقي، مثلما نحن نشتهيها، وتفتقد إليها قواميسنا التي باتت مترعة باللفظ الهجين في خشخشته وتثاقله على عملية الاستيعاب وحسن الإصغاء، بما يخلّف الأثر الفردوسي في النفس ويجعلها تحلّق طليقة متحرّرة وحالمة، في آفاق الحكاية المخطوطة بدم الفؤاد، يحدث أن تجري أحداثها وتنسج فصولها، بلسان شاهد وحيد فقط،هو التجربة في طور ما بعد الاختمار الطويل والتراكمية المحرّضة على عيش الطقس الخاص بحذافيره، بمعزل عن زيف المرايا، دونما تكلّف أو بذخ أو تضليل أو نشاز.

إنه اجتراح الفعل الإبداعي على سبيل التجريب لا أكثر، وفق المعايير والمقاسات التي تمليها طقوس اقتراف خطيئة ما قبيل التوبة النهائية والأبدية، وتزيّنها نشوة اختلاق مسرح طروادي ممكّن لنفاذ من نوع خاص، وتوغّل خارج الزمن واستفزاز ذكي للذاكرة المعطّلة، كضرب من هذيانات إبداعية تداعب أسرّة الليل وتقطف من عناقيد الحلم المشروع، وتسابق عناد التجاوزات مدّ المسافة الدامية الشائكة، باعتماد ساق للسبق تكفر بالاجترار والمشهدية المكرورة.

وبالطبع، لعل عنصر الموازنة المفقود ضمن هذه الفسيفساء الكلامية، على ترامي خيوطها ومتونها المتوهجة بزقزقة الحرف الناري المتنكر لتحجر اللحظة وضيق الحيّز بحكاية، للمرّة الأولى تروى، نعم للمرّة الأولى، بما هو ثورة على القشيب والمتقادم، تبعاً لفولكلورية تتناغم والصياغات الجديدة للعوالم والذوات.

قلت لعلّ عنصر الموازنة الذاتية، لا يمكن استشفافه إلّا من عتبة المنجز، مع تبادل تهويمي في الأدوار، وارتباكات في الهوامش المنذورة للعبة الأقنعة، استطراداً في نصانية بلغية الصمت صدّاحة البياضات، ليس تنذر بسوى ما تقوّمه التأويلات المتزحلقة عبر محطات المعاناة مضاعفة في تلبّسها اشتراطات عصر الجنون كما يقطعنا بضوضائه وتناقضاته واختلالاته، جاثماً على صدورنا المثقلة بأنين الطين أصلاً، حدّ الاختناق ولفظ الأنفاس الأخيرة.

العتبة المنجز مثلما تؤمن به ذات هاربة جوانياً من وإلى صدى مرايا لا تكذب، تأمّماً لحيوات الخلاص، وترجيح بؤر النورانية المغلّبة كليا في حرب مع الذات كآخر وقرين.

«تلالي تضيق بعوسجها»، وهي النبرة السائدة على مدار الحكي وتفشّي اتجاهات البوح المشفوع بزركشة ووسامة تجنّب الاصطدام الهمجي بالآنيّ المماطل والمتمادي في شحوبه وإسمنتيته.

فلنتملّى ملء رئة ثالثة هذه الإلتماعات في تراتبيتها وتشابكها وتداخلاتها وتكاملها وومضيتها لتشكيل المشهد الاستثنائي المدهش:

«خطواته الثكلى

تيمّم ارتجافها

نحو مسافات الركض…

وفي البعيد

تلوح أطياف الخريف:

قطيع أغنيات شاحبة

لفظتها الحقول…

فتطاول لون المرايا».

«الخيل تستنهض الهمم

لكن الصهيل

يصرخ في أودية السراب

ولا من مجيب…».

«أبحث عمّن يخلّصني منك

من سهام لحظك التي تفتك بكل مواهبي

وتسرق مني حتى شقائي…

أبحث عمّن إليّ تمرّدي

عمّن يقرأ طالعي

ويروي ظمأ القصيدة

فلا أجد إلّاك…

إلّاك…».

«خيولي:

خيولي التي رمح الجنون صهوتها

ترثيني…

فما عاد الفرق جلياً

بين الصهيل ورجع الصدى».

«يرتّب فوضى هذا العالم الغجري…

وبقيت خيله أبداً

في مقدّمة السباق…

من يراهن عليها

لا بدّ يكسب الرّهان…

لا بدّ

يكسب الرهان…».

«يرشد الفيل إلى الكعبة

يومئ لفارس أسود:

هذا قبر حاتم.

وهذا شاعر يحبّ الوطن

لا بدّ من قصيدة إذن

تعرّي هذا الخائن،

فقدر القصيدة أن تبقى

أن تشمخ وتعلو

وإلى عتمة المصير يرحل الجاحدون…».

«لست ممّن يجلدون

الآه

كي تقودني إلى بوابة الشعر».

«تمخّض الشاعر

وهو يحلم بالحرّية.

جاءه الطّلق

فأجهض قصيدة…».

«الشمس في بلادي:

تطلع من كلّ الجهات

إلّا

من جهة الحرّية…».

«في البدء

كانت الرّغبة

ثمّ كان الظلم

ثمّ كنت أنا…».

شتّى هذه التنقّلات أو بالأحرى التحوّلات التي يعرفها النصّ في هجرته إلى تسجيل إقرار محايد بمكابدات أنوية، ضاغطة باتجاه ضفاف تعبيرية تُنشد من خلالها الحرية والخلاص وإدانة المعشوق، داخل معادة مخولة لدفق من الأحاسيس غير مكتملة النضج.

تلكم زئبقية هواجس يتم تمريرها ثارة التزاماً بمناخات نوبات العشق في اجتياحها غير الرّحيم لذات ما تنفك تتجرّع مرارة المنفى المضروب على روح عارية بريئة تشعّ من شقوقها الملائكية ومواويل الطفولة البعيدة جدّاً جدّاً.

لكن تلطّفها عزلة إبداعية اختارتها الذات قصد لملمة الشرخ والاستحواذ النسبي على انفراط ذرات عقد الحياة ومحاولات الفكاك من ترهاتها وتخاريفها وعُقدها المتواترة عنوة وجزافاً.

وتارة الاشتعال الذاتي بحسّ الانتماء، والإسراف في جسدنة غيرة الشاعر الضال المتغني بفحولة القلم في ما يتعلّق بالذود عن قضايا عروبية مصيرية كبرى، تبرق أبعادها الإنسانية ملامسة حواشي الضمائر الميتة والعقول البور إجمالاً.

وهكذا تستميل العتبة بعدّها منجزاً كاملاً، وجملة واحدة، وتنثال بمغناطيسيتها المنطوية على خروق دلالية وتركيبية جارفة باتجاه كشف بضع من أسرار العوسج كظاهرة، أيضاً بما هو كائن ومُؤنْسَن وأحجية خارج حدود المتعارف عليه، شاهد على غبن الذات وانشطاراتها في خضمّ عقوق متفاقم وتماوجات كونية راحت تتحدّانا بسائر ما نرى ونسمع ونتحسّس.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى