خط الحدود السوري العراقي يحاصر الإمبراطوريّة الأميركية
د. وفيق إبراهيم
كان يكفي استحضار الإمكانات الثقافية والسياسيّة الهزيلة للرئيس الأميركي دونالد ترامب كمؤشّر ساطع على مدى اضمحلال الدور المرجعي الدولي لواشنطن.
لكن الدول الكبيرة، وهي في خاتمة الأمر مؤسسات، تضبط في العادة جموح الرؤساء المتهوّرين… هذا ما يحدث في السياسة الأميركية حالياً.
لذلك، تجب قراءة التراجع الأميركي بطريقة علمية، تتّجه إلى تحليل موقعه حالياً. هناك أولاً تقلّص لمشاريعها السياسية والعسكرية في «الشرق الأوسط» وجنوب شرق آسيا، وتمرّد أوروبي على محاولات ترامب الاستئثار باقتصاد الدول النفطية ولا يجوز التغافل عن الانتشار الأفقي الصيني والعودة الروسية المتدحرجة إلى الفضاء السوفياتي السابق.
وبالمقارنة بين الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي ووضعها اليوم، يقول الخبراء إنّ هناك تعثّراً اقتصادياً كبيراً فاقم ديونها محدثاً خللاً في حجم الطبقة الوسطى، أي في حجم الاستقرار السياسي. ما استتبع بروز ظاهرة العداء للأجانب عند فقراء أميركا. ويتردّد أنّ أميركا بحاجة إلى ستة آلاف مليار دولار لتعاود بناء أمنها الطبقي، وهذا ليس موجوداً إلا في الخليج واليابان وألمانيا، أي البلدان الناجحة لتقدّم أنظمتها الاقتصادية أو الممتلكة فوائض من النفط والموارد.
لقد شنّت الولايات المتحدة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، حروباً ومؤامرات واعتداءات أدّت إلى تعميم هيمنتها الدولية، وانتزعت دور الاتحاد السوفياتي وأوروبا وصمت الصين في آنٍ معاً، وبالتالي كامل القرار الدولي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاستهلاكية.
وها هي واشنطن بعد 27 عاماً، تجد نفسها في وضع مزرٍ لا يحسدها أحدٌ عليه: صعود صيني صاروخي وياباني، وألمانيا اقتصادياً، وعودة روسية متدحرجة ونجاح إيران جيوبوليتيكياً في اختراق العالم الإسلامي والتحالف مع روسيا.
ألا يثير هذا الموضوع الاستغراب؟ واشنطن تحتلّ وتجتاح، فيما أوروبا والصين تتوسعان اقتصادياً، وروسيا وإيران تنتزعان نفوذاً سياسياً؟! فيما أميركا التي اجتاحت العالم ونظّمت حروب الفوضى في معظم دوله تخسر اقتصادياً، وهي الآن مهدّدة بخسارة مرجعيّتها الأحادية أمام قوى أخرى، ولم تنتصر عليها في حرب عالمية ثالثة، وإنّما في سلسلة حروب إقليمية انتشرت في أفغانستان وشبه القارّة الهندية والمشرق العربي. فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا الوضع؟
لم يُسفر الغزو الأميركي لأفغانستان عن غاياته، فلا تزال حركة طالبان ومنظمة القاعدة تسيطران على سبعين في المئة من البلاد، وذلك بعد 16 عاماً على الغزو الأميركي.
وبعد 14 عاماً على غزو العراق، لا يستطيع الجندي الأميركي الخروج مسافة مئة متر خارج قاعدته في أنحاء أرض السواد والرافدين، فالنفوذ الأول هناك هو للدولة العراقية وحليفتها إيران، إلى جانب نفوذ أميركي وآخر تركي هامشي. كما أنّ مصر هزمت المشروع «الإخواني» الذي كان يتمتّع بدايةً بتأييد من البيت الأبيض.
وتتشابه الأمور في ليبيا وتونس، حيث يتحارب المقرّبون من أميركا مع الإخوان المسلمين، وكذلك اليمن الذي يراوح المشروع الأميركي السعودي مكانه، من دون أية نتائج سياسية. لجهة الصومال، فهو «سيرك» دموي مفتوح برعاية أميركية لم تنجح في حسم الصراع لمصلحة أنصارها.
هناك إذن فشل أميركي في تحويل مداخلاتها العسكرية إلى نفوذ سياسي واقتصادي، ما أنتج المزيد من الإنفاق المتصاعد على الوحدات العسكرية من دون أيّ مردود يسعى إليه بدأب الاقتصاد الأميركي.
أمّا الأسباب الأكثر دراماتيكية التي تهدّد بخسارة الولايات لمرجعيّتها الدولية، فهي الحرب على سورية، التي تحوّلت من مشروع غربي خليجي لاستبدال النظام بحكم من التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، في غضون أشهر كما كان يتردّد… ونتيجة لعجزه، تحوّل إلى مشروع لتفتيت سورية إلى كانتونات، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الميدان السوري شكّل مسرحاً لحرب عالمية أدارتها الولايات المتحدة الأميركية بإشراف قطري سعودي تركي مباشر، مموّل بمئات مليارات الدولارات مع تجنيد مئات آلاف التكفيريين والحدود المفتوحة في كلّ مكان.
أمّا أسباب هذا الاهتمام الأميركي بتدمير سورية، فمردّها إلى مركزية دورها في المشرق العربي تاريخياً هي موقع أول دولة عربية مركزية في التاريخ الأموية ، ولها تأثيرها في لبنان والأردن والعراق لأسباب تاريخية واجتماعية، من دون إغفال الجانب الاقتصادي لأنّ دمشق هي نقطة الانتقال والعبور بين هذه الدول وإليها.
لكن للأهمية السياسية تفسيرات أكثر عمقاً، تطمع فيها السياسة الأميركية فسورية هي الدولة الوحيدة التي يؤدّي انهيارها إلى إلغاء القضية الفلسطينية وانتهاء جبهة المقاومة من إيران إلى لبنان، ونفاد وظيفة الأردن وتصدّع العراق.
لمجمل هذه الأسباب، ركّزت السياسة الأميركية على تغيير النظام أولاً ففشلت… وها هي على عتبة الفشل مرة جديدة في تفتيت الكيان السياسي السوري.
مظاهر الفشل متعدّدة، لكنّها تتمركز في نجاح الحلف الروسي ـ الإيراني ـ السوري في تحقيق إنجازات عسكرية ضخمة، يشكّل بعضها ضرورة لتمتين وضع الدولة السورية، ويذهب بعضها الآخر نحو إلحاق هزيمة بالمشروع الأميركي في «الشرق الأوسط».
وإذا كان تقدّم الجيش السوري شمال حلب وشرق حمص وشرق تدمر ودمشق يندرج في إطار توسيع نفوذ الدولة، فإنّ وصول طلائع الجيش السوري وحلفائه شمال شرق نقطة «التنف» الحدودية مع العراق، إنّما يندرج في إطار استراتيجي يرتبط بكامل «الشرق الأوسط»… واستمرار انتشار الجيش العربي السوري على طول الحدود وصولاً إلى الاتصال بخطوط انتشار الجيش العراقي والحشد الشعبي على الجهة المقابلة، إنّما يشير إلى عنصرين: هزيمة الإرهاب بقطع خطوط تواصله بين البلدين، وانهيار المشروع الأميركي في «الشرق الأوسط» الذي يريد إعادة إيران إلى حدودها ومنع روسيا من الوصول إلى المشرق من خلال الخط الروسي الإيراني العراقي السوري. إنّ خط العبور الروسي إلى «الشرق الأوسط» من خلال تركيا مفتوح بموجب معاهدات تاريخية بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية، تتيح المرور للأساطيل الروسية من البحر الأسود إلى بحار مرمرة وإيجة والمتوسط، لكنّها خطوط مراقبة من قِبل حلف الناتو والأتراك.
لذلك، يبدو أنّ الخط الجديد الروسي الإيراني العراقي السوري، إلى حزب الله في لبنان، وكأنّه أقوى خط مرور جيوبوليتيكي يخلخل الأحادية الأميركية، دافعاً باتجاه نموّ حلف من بلدان هذا الخط، قد يجذب الصين في وقت قريب، وينزع من واشنطن قسماً كبيراً من مرجعيّتها الدولية، مؤدّياً في الوقت نفسه إلى إنتاج تعدّدية مرجعية تعيد فرض الاحترام إلى القانون الدولي وتلجم حركة الكاوبوبي الأميركي المتصاعدة في السطو على «القطارات» الاقتصادية في العالم.
إنّ معركة الحدود السورية العراقية لمّا تنتهِ بعد، لكنّها بدأت تؤشّر إلى نجاحات قريبة للجيشين السوري والعراقي، يمكن تلمّسها من خلال الصراعات المتفجّرة في المحور الأميركي مع تركيا وقطر، وبين المنظمات التكفيرية في سورية التي تتبادل الهجمات والقتل والذبح في أكثر من منطقة، بالإضافة إلى الصدام التركي الكردي الذي تسبّبت به واشنطن.
هذه المؤشرات عميقة وذات دلالة، لكن من الضروري ربطها بنموّ الدول المقبل لمنظمة شنغهاي التي أصبحت تضمّ بلداناً بحجم روسيا والصين والهند وباكستان، ويتوقّع أن تنتسب إليها إيران قريباً.. ما يدلّ على بدء تشكّل مرجعيات دولية جديدة بدفعٍ من هزيمة الأميركيين عند خط الحدود السوري العراقي.
إنّ مقبل الأيام كفيل بالكشف عن أهمية الانتصارات التي يُنجزها الجيشان السوري والعراقي، وقدرتهما على تحويل الأرباح العسكرية إلى استراتيجيا تحمي المشرق العربي من طارئين دخيلين أنظمة الخليج القرون أوسطية، والاستعمار الأميركي المتجسّد بوقاحة الكاوبوي ترامب.