جورج حبش السؤال الصعب في الأيام الصعبة

معن بشور

لا بدّ في البداية من توجيه شكري الخالص لمنتدى بيت المقدس وعلى رأسه المهندس ماهر ضياء الدين النمري على منحي شرف الحديث عن واحد من أبرز رموز النضال القومي العربي على طريق فلسطين والوحدة العربية، وان يكون الحديث عنه في ذكرى رحيل القائد الأبرز للحركة القومية العربية المعاصرة الرئيس الراحل والخالد الذكر جمال عبد الناصر، وفي عمّان العاصمة التي عاش فيها حكيم الثورة بعض أهم مراحل نضاله الثوري، جنباً الى جنب مع بيروت التي ما زال هتاف جورج حبش في مينائها وهو يغادرها في مثل هذه الايام عام 1982 يتردّد صداه في أذني هاتفاً يومها بيروت… بيروت… بيروت…

في حياة الشعوب والأمم نوعان من الشهداء، نوع يقدم حياته في لحظة مواجهة مع العدو، او في عملية فدائية ضدّ محتلّ، او برصاصة غادرة من عميل، ونوع آخر يهب عمره كله من أجل مبادئ يؤمن بها، وقضية يعيش من أجلها، ومَن أجدر من جورج حبش بلقب شهيد فلسطين والعروبة في آن بعد ان نذر حياته كلها من اجل فلسطين التي اعتبر ان الطريق اليها يمرّ بالوحدة العربية، ومن أجل الوحدة العربية التي آمن أنها تبنى في مسيرة النضال من أجل تحرير فلسطين.

ما زالت المعادلة صالحة، على رغم كلّ ما يحيط بنا من خيبات وعثرات ونكسات، فالوحدة طريق فلسطين، تماماً كما فلسطين طريق الوحدة، وهي لم تعد مجرّد معادلة فكرية او نظرية، كما أطلقها روّاد الفكر القومي العربي المعاصر، بل تأتي كلّ التطورات اليوم لتثبت انّ كلّ ما تشهده أمتنا من فتن وفوضى وتوحّش واحتراب وانقسام وتقسيم مرتبط بوضوح بالتآمر لإبعادنا عن العروبة كهوية تجمعنا، وعن فلسطين كقضية توحّدنا، وذلك عبر فلسطين ولتبرير قيام الكيان العنصري الاستيطاني الاحتلالي الإرهابي على أرضها، تماماً كما تشي كلّ محاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر العدوان تلو العدوان، وعبر الانقسام تلو الانقسام وعبر تغليب المصالح الفئوية الضيّقة على المصلحة الوطنية والقومية العليا…

لا أعتقد أنّ إبن اللدّ، طالب الطبّ في الجامعة الأميركية في بيروت خلال أربعينات القرن العشرين، كان يدرك أنّ نكبة بلاده عام 1948 ستدفعه ليؤسّس مع رفاق له كوديع حداد وهاني الهندي، وأحمد الخطيب، وباسل الكبيسي، ومحسن ابراهيم، ومصطفى بيضون، واحدة من أهمّ الحركات القومية العربية المعاصرة التي انتسب اليه مناضلون ومثقفون وناشطون من موريتانيا على كتف المحيط حتى ظفار والبحرين والكويت على سواحل الخليج. وصولاً الى اليمن حيث باب المندب بكلّ دلالاته الاستراتيجية.

كما لا أظن أيضاً انّ هذا القائد والرمز القومي الكبير كان يدرك تماماً ان منظمة أبطال العودة التي أطلقها في أواسط الستينات مع رفاق له كالشهيد أبو علي مصطفى، والراحلين أحمد اليماني أبو ماهر وعبد الكريم قيس أبو عدنان ، والشهيدين غيفارا غزة وغسان كنفاني، كواحدة من اوائل المنظمات الفدائية قبيل حرب حزيران 1967، ستتحوّل بعد فترة وجيزة الى واحدة من أهمّ المنظمات الفلسطينية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ملأ صيتها العالم، وانشغل بها القاصي والداني، وباتت حليفة كلّ ثوار الأرض، فيما بقيت هي أمينة على أرض فلسطين، كلّ الأرض، فلم تدخل يوماً في مساومة أو مناقصة أو حتى مزايدة في صراع بات هو الأطول والأخطر والأكثر تعقيداً في عصرنا الحديث.

لكن جورج حبش، بإيمان يضاهي إيمان الأولياء، وبثبات قلّ نظيره، وببساطة نادرة، كان يتقدم من موقع الى موقع، لا يضيره الانتقال من بلد عربي الى آخر، فبلاد العرب كلها وطنه، ولا من سجن الى آخر، فالوطن العربي بات سجناً كبيراً يتناوب على حراسته احتلال واستبداد ويتعاونان، ولا ان يمضي ردحاً طويلاً من حياته يعمل «تحت الارض» من أجل تحرير الأرض التي نذر العمر من أجلها.

فلهذا الرجل الكبير بالطبع مزايا وطنية وسياسية وأخلاقية وشخصية نادرة، جعلت من لحظة الاعلان عن رحيله لحظة صمت وألم وحزن لفت عشرات الملايين من أبناء شعبه وامته واحرار العالم، غير ان ميزته الأكبر انه في زمن المتغيرات الكثيرة، بل زمن المتغيرين الأكثر والقول للاستاذ منح الصلح بقي جورج حبش حارس الثوابت، حريصاً على المبادئ لا يفرط في حق، ولا يساوم في مبدأ.

على ان ميزته الكبيرة هذه اقترنت بميزة أخرى لا تقل عنها أهمية، بل وترتبط بها، وهي أنه كان معارضاً داخل الساحة الفلسطينية من دون انقسام، معترضاً من دون انشقاق، لأنه كان يدرك ببساطة أن أقصر الطرق للتفريط بالثوابت هو ان تدفع بشعبك الى مهاوي الانقسام والانشقاق والاحتراب.

هذه المزايا مجتمعة جعلت لجورج حبش مكانة مميزة لدى مؤيديه كما لدى من كانوا يختلفون معه، بل كان كثيرون داخل الساحة الفلسطينية والعربية، وفي مقدمهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، ينتظرون كلمة «الحكيم» التي غالباً ما تكون «تشريحاً» دقيقاً للمرض، ومعالجة صريحة لأسباب العلّة.

ويكفي جورج حبش فخراً، انه كان من القادة النادرين في تاريخنا السياسي والحزبي، الرسمي والشعبي، الذي تنازل طوعاً عن موقعه ايماناً منه بالتداول، بل يكفيه فخراً كذلك أن أحد خليفتيه في الأمانة العامة للجبهة الشعبية أبو علي مصطفى قد استشهد على يد الاحتلال الصهيوني، وان خليفته الآخر أحمد سعدات ، ما زال معتقلاً منذ سنوات في سجون المحتلين.

قد يغيب وجه جورج حبش عن أبناء فلسطين والأمة، عن أحرار العالم المنتشرين من اليابان حتى اميركا اللاتينية، لكن احداً لن يستطيع ان يغيّب صورة حبش المناضل والمعلّم والقائد عن ذاكرة فلسطين والامة.

ايها الأخوات والإخوة

في ذكرى حكيم الثورة، القائد والمؤسس جورج حبش، يبقى السؤال الصعب في الأيام الصعبة: «هل ما زال المشروع القومي العربي، المشروع الوحدوي الديمقراطي التقدمي، صالحاً في زمن التشظي والتردي العربي الراهن؟».

ان نظرة سريعة الى مآل كل المشاريع التي قدمت نفسها بديلاً من المشروع القومي العربي يؤكد الحاجة الموضوعية لهذا المشروع النهضوي وإن كانت الحاجة الموضوعية وحدها لا تكفي اذا لم تقترن بشروط ذاتية وآليات عمل ونضال تحمل هذا المشروع.

فمشروع الكيان القطري يتهاوى اليوم أمام عجز الدولة القطرية عن توفير الامن الوطني والقومي، وصون الاستقلال والسيادة، وتلبية احتياجات التنمية والعدالة الاجتماعية، وبناء المؤسسات الديمقراطية الحقيقية، بل يبرز في شكل خاص عجز الدولة القطرية عن حماية الوحدة الوطنية بين مكونات مجتمعها.

والمشروع الديني السياسي المجرد من بعده القومي والتقدمي والعصري، وعلى رغم مكانة الدين والايمان في وجدان الأفراد وحياة الشعوب، يتهاوى كذلك امام استفحال الموجات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تتحول الى قنابل موقوتة لا تثير حرباً بين الطوائف والاديان والاعراق فحسب، بل داخل كل مكون من هذه المكونات نفسها.

اما نظرية «الاشتراكية في قطر واحد»، او الثورة في «بلد واحد» والتي وقع في أسرها كثيرون من مفكرين ومناضلين وحكام، فقد تهاوت في شكل خاص امام استحالة قيام هذه الاشتراكية القطرية من دون قاعدة انتاجية كبرى مستندة الى سوق عربية مشتركة هي أساس اي تكامل اقتصادي عربي يحاكي التكتلات العالمية الكبرى والمنظومات الاقليمية التي تتوالد من حولنا في كل قارات العالم لتعلن استحالة عيش الكيانات الصغيرة بمفردها.

«والليبرالية اللاوطنية الجديدة»، التي يجري تسويقها اليوم باسم «الحرية والديمقراطية، وحقوق الانسان» وكلها مطالب عزيزة في مواجهة الاستبداد والفساد والتبعية، هي الوجه السياسي للرأسمالية المتوحشة التي تكشف الايام عجزها البنيوي وتغوّلها على حقوق الانسان والشعوب، بل يتحول دعاة هذه «الليبرالية المزيفة» الفاقدة لأي انتماء وطني وقومي الى رؤوس جسور ثقافية وسياسية واقتصادية واعلامية للهيمنة الاستعمارية الجديدة.

أما مشروع التسوية السياسية للصراع العربي الصهيوني، وهي تسوية طالما عارضها جورج حبش ورفاقه ابناء المدرسة القومية، وحذر من تداعياتها الخطيرة، فأصحابه باتوا اليوم امام حائط مسدود، وأفق مسدود، بعد عقود من الرهان عليها، لتعود المقاومة، التي هي في الاساس خيار قومي اصيل، رداً رئيسياً على الاغتصاب والاحتلال والهيمنة، بل لتبرز كواحدة من آليات توحيد الامة في مواجهة كل التحديات.

واذا كانت كل هذه المشاريع ازدهرت في العقود الماضية على قاعدة تراجع المشروع القومي العربي، وسقوط معظم حامليه من انظمة ومنظمات في الممارسة العملية، فإن الباب بات مفتوحاً من جديد امام احياء المشروع العروبي الوحدوي الديمقراطي القائم على المواطنة الكاملة التي لا تميّز بين الناس على اساس الدين او العرق او اللون او الجنس، بل القائم على احترام خصوصية الأقطار والجماعات الاثنية، كما على احترام تلك العلاقة المميزة بين العروبة والاسلام، التي يحصّن فيها الاسلام العروبة من الشوفينية والعنصرية، وتحصن فيها العروبة الحركات الاسلامية من مزالق الطائفية والمذهبية، بل تلك العلاقة المميزة بين العروبة والنهضة التي كان للمسيحيين العرب الدور البارز في زرع بذورها وتأسيس اركانها. أليست العروبة هي هوية تنطوي على مشروع نهوض.

لجورج حبش في ذكراه عهد الوفاء والالتزام بالثوابت التي كان حكيم الثورة أحد أبرز حرّاسها.

مداخلة في ندوة لم تنعقد في عمان

رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى