خيال متشعّب وواقع متزاحم في رسوم علي الجباعي
رنا صادق
رحم اللوحة واسعةٌ، طامحةٌ وجامحةٌ. محظورة الأطراف وناعمة الظلال. خطيرة إذا أُنهكت، وفيّة إذا كُرّمت. تعلو أنفاس اللوحات، تتساير العيون برسومه على خطى محاذية للأصالة. مسالمة الطبع تبقى وتهوى الهدوء، هي باختصار لوحات الرسّام والفنان الجنوبي علي الجباعي. فلكلّ إنسان موهبة خاصة، يعمل عليها ليحسّنها. وجوهٌ تحاكي وجوهاً في رسوم الجباعي. صغيراً كان يتسابق والأحلام. أبعده السفر عن موهبته. من البارغوي إلى إيطاليا، وعشق الرسم رافقه وأنين الحنين للعودة. يهب فنّه الحياة، حياة عفيفة هادئة تتأرجح في دروب الجمال. يمزج الألوان كمربّعات رقعة الشطرنج. ألوان عسليّة الخفّة باهرة السحر.
«البناء» التقت الجباعي، وكان حوار تتطرّق فيه إلى تجربته مع الرسم، والأسس التي تحكمه، ووضع الرسم والفنون حالياً في لبنان.
أصعب الرسوم، الرسم في الوجوه، من دقّة الملامح وتفاصيلها، ولكلّ وجهٍ علامات فارقة، الرسّام وحده قادر على تمييزها، كما أنه قادر على ملامسة نفس الشخص الذي يرسمه، مهما حاول الأخير إخفاء صفاته وأحاسيسه. وهذا النوع هو قمة الرسم، من اعتاده، بسُطت أنواعه الأخرى عليه.
الجباعي مال منذ صغره لهذا النوع، لأسبابٍ عدّة. أطر الرسم دقيقة خصيصاً رسم البوتريه، فيتدفق عنه الرسم المباشر أو النقل، وفي كلا الحالتين لا بدّ من البدء بالمنظور وتحديد الملامح الكاملة للشكل، ثم يتبعه موهبة الرسام عينه ونهكة إحساسه الخاصة، عبر إظهار مقدرته في تجسيد الشخصية للوجه وعكسها في الصورة، فهو بطريقة أخرى يرسم انعكاس الصفات غير المرئية، كما يحدّد الجباعي.
كما أن رسالة الفنان بشكل عام لا تقلّ أهمية عن سواها، فهي تكمن في نقل الواقع بصورته الجميلة، الذي يحاول جاهداً إيصال الرسالة للمتابع مع كافة اختلافاتهم ببساطة وانسيابية كما يشير الجباعي.
ظروف عائلية أجبرت الجباعي على وقف دراسة الفنون الجميلة في إيطاليا والتوجّه للعمل في أميركا الجنوبية، ما أبعده عن مجال الرسم، لكن موهبته المتلهفة للظهور إلى العلن ظلّت لديه، مارسها دائماً، لم ينقطع عنها يوماً. عاش بين البرازيل، فنزويلا وإسبانيا، وأهلكه الحنين إلى الوطن والعائلة. استقر في لبنان عام 2010، عاد وتابع موهبته، في كلّ فنٍّ جديد، إلى أن أثبت جدارة رسمه، ودقّة خطوطه.
حلمه القديم على حدّ قوله هو هواؤه وكيانه، يختلجه في عمق ذاته واقعٌ مفصّلٌ على أسطح شخصيته تبرز طفرةً في لوحاته. وخيال متشعّب وواقع متزاحم تنبثق عنهما مادة حية للرسم، ينتجها الرسّام ويصمّمها بالريشة، ومن هذين العالمين يستوحي الجباعي فنّه.
شارك الجباعي هذه السنة في معرض ضمّ 70 رساماً عربياً، لإحياء ذكرى الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. ويقول إن لنجاحاته لمسة فنية مميزة عبر رسومه ثلاثية الأبعاد، التي جسّدت الفنان الراحل.
دقّق الجباعي في تفاصيل وجه الزعيم أنطون سعاده في لوحته، إذ يعتبر أنّ سعاده رجل عقيدةٍ بامتياز، ويقول في هذا الصدد: يمتزج احترامي لعبقريته بعبق فكره وقوميته، وأعجب بهذه العبقرية التي ظهرت في مراحل مبكرة من حياته، في ظلّ ظروفٍ صعبة وقاسية التي كانت تمر على بلادنا. ورغم هجرته في عمر صغير إلا أنه امتلك فكراً قومياً فلسفياً عاماً وعقيدة ذات ثقافة عالية بعيدة الأمد، والدليل على ذلك، استمرار نهجه حتى اليوم رغم العوامل المستجدّة في العالم العربي.
مدينة السحر والجمال فينيسيا أشعلت في قلب الجباعي فتيلها، التي عاش فيها فترة طويلة فيها، أوقدت في صدره الحماسة. لوحته «فينيسيا» علت أصداؤها الفلك، في حين لها في قلب الجباعي ذكرى خاصة.
أمّا عمّا إذا كان عمر الرسم قصيراً مع تواتر التكنولوجيا وتطوّر الفنون، كان جوابه: الرسم بالريشة لا يمكن الاستغناء عنه، هو حجر الأساس، لا خطر عليه من أيّ شكل من التطوّر. عمره أبديّ، لا يمكن الابتكار إلا بالعودة إليه ومنه. أمّا الخطّ والطباعة، فيمكن للتطوّر والتغيير أن يؤثرا عليهما. لكن الفنون باختلافها ستبقى طالما هناك إنسانية ووجود ورقيّ بشري فكري ثقافي.
وأخيراً، يشير الجباعي إلى أن الوضع الفني في لبنان مزدهرٌ، بمعنى آخر متأهل بالأجيال القادمة، وتميّزها بالمواهب، لكن الواجب على وزارة الثقافة إعطاء القليل من الاهتمام للفنون والفنانين وخصوصاً الشباب، وتعطي هذه المواهب حقّها، عبر سياسات وخطط ثقافية. فالحركة الفنية في لبنان فيها جيل جديد ومبدع، قادر على إثبات نفسه، رغم تدفّقه المتزايد يقابله إقبال كثيف، ما يدل على تحسنّه. وتجدر الإشارة إلى أن الرسم يحتاج اليوم إلى الانتماء، الاحتواء من وزارة الثقافة من خلال تشكيل لجان ثقافية تخصّص وتتابع المجالات الفنية والمواهب الشابة، وهي في النهاية تمثّل لبنان، حضارةً وكمّاً فنياً بحتاً، يشكّل التاريخ، وذلك لضمان استمرارية المسيرة الفنية، والحفاظ عليها. فالدعم الثقافي هو ما ينقص الفنّ في لبنان.