هل يستفيق المواطن من كبوته الطائفية؟
د. لور أبي خليل
عرّف سبينوزا الخير العام بأنه القانون الإنساني الذي يشكل قاعدة الحياة، ومهمته الوحيدة المحافظة على سلامة الحياة والدولة، إذ يرتبط الخير العام بالقيمة الأولى وهي الاخلاق إلا أن الخير العام يصعب تحقيقه في بلد قيمته الأولى «الطائفية» مثل لبنان فيه أفراد ومجموعات تدّعي أنها مختلفة ثقافياً باختلاف مذاهبها.
هذا الأمر ليس صحيحاً، لأن الاختلاف في لبنان ليس إلا اختلافاً في الثقافة الفرعية. والادعاء أنه اختلاف ثقافي حقيقة نفعية وضعها زعماء الطوائف والمذاهب في أذهان بيئتهم الحاضنة للسيطرة على الثروات المحلية وللبقاء في المراكز السياسية وللاحتفاظ بالمناصب المعروفة بـ»التوريث السياسي». هذا الأمر له علاقة بضيق نظرة المواطن للقيم الإنسانية مثل العدالة الاجتماعية وحكم القانون والمساواة الاجتماعية والحرية وتفضيله بعدالة زعيمه وبحكم قانونه وبالشعور بأن الحرية والمساواة لا حاجة لهما إلا ضمن المنطق المختص داخل الطوائف ومصالحها. فالمواطنون اللبنانيون لا يعلمون أن الحياة والمجتمع لهما اساس واحد وهو «حكم القانون» الذي يعمل لإرساء معايير المواطنة والحق العام والعدالة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي.
فكيف يتحقّق كل ذلك؟
يتحقق الخير العام عبر المشاركة السياسية في صناعة القرار السياسي، أي عبر مشاركة المواطن في الانتخابات التشريعية والمحلية. والمشاركة يجب أن تكون معاييرها مدنية أي أن الاختيار للمرشحين يُفترض أن يتمّ ضمن معايير الكفاءة والجدارة لا ضمن معايير المذاهب والطوائف اختياراً لأشخاص يحملون برامج تنموية ذات منفعة عامة ويجتمعون في جلسات تشريعية لتنفيذ إرادة المواطن وليس إرادة طوائفهم فتحصل عندئذ المصلحة العامة. يجب الخير العام أن يتضمّن أجوبة محدّدة عند رسم السياسات العامة أجوبة ذات أهداف عامة، لأن القرارات كافة التي يمكن أن تتخذ يمكن أن تُقسم إلى فئتين: الأولى «قرارات خيّرة» تعمل على أساس المصلحة العامة ضمن أطر تثبت العدالة الاجتماعية. والثانية «قرارات سيئة» تعمل على اساس المصلحة الخاصة التي تضعف مفهوم التماسك الاجتماعي لذا عند اختيارنا للمرشح نختار إما الخيّر وإما السيئ فالذي يحمل برنامجاً واضحاً إنمائياً يكون من الفئة الاولى. وهنا نكون قد زرعنا إرادة عامة تعادل إرادة المواطن العاقل كإرادة مشتركة مع الخير العام والمصلحة العامة والحق العام والرفاهية.
كل هذا الأمر لا يعني عدم وجود معارضة في الانتخابات. فهي حق عام أيضاً شرط أن تكون هذه المعارضة، هدفها الاختلاف والتنوّع ونكون أيضاً ضمن الفئة الاولى أما اذا كانت المعارضة أهدافها إلغائية فنكون عندئذ في فئة القرارات السيئة التي تظهر في معارضة لا تتوافق طبعاً على سلم قيم موحّد ركائزه وحدة الأرض والجيش والمقاومة ووحدة النظرة الى العدو «الإسرائيلي» على أنه مغتصب للارض ومغتصب للحق العام. معارضة لا تسعى في أهدافها على البقاء في ارضنا والدفاع عن ثقافتنا ومحاربة الفساد والمفسدين. معارضة تحفز هجرة الشباب والأدمغة. لأن الاختلاف والتنوع هو غنى ثقافي ومساعد للتنافس البناء، إذ يمكن أن يكون هناك اختلاف في كيفية إدارة الشؤون العامة مثل تفضيل خدمة عامة على أخرى، ولكن لا يمكن أن يكون الاختلاف إلغائياً للهوية القومية مثل الذي حصل ويحصل في سورية، لأن الإرادة العامة هنا مرتبطة بالشؤون المصيرية وتختلف عن إدارة الشؤون العامة المرتبطة بإدارة المرافق والخدمات العامة. فالأولى تفترض وجود خير عام محدّد تحديداً فريداً ومدركاً من قبل الجميع، اما الثانية فتفترض وجود خير ليس للنفعيين أي دور فيه. فإرادة المواطن التي تعتبر عاملاً سياسياً يفترض أن تقوم على أسس غير طائفية وغير عائلية وغير مناطقية، بل على أسس وطنية جامعة تدعم الحس بالمسؤولية وتحفز العمل والإنتاج وتدعو الشباب لابتكار أفكار جديدة للتنمية.
إن الذي يحصل في لبنان يمكننا تحليله على الشكل التالي: أن المواطن اللبناني لا يشعر أنه مسؤول عما يفعله السياسيون المحليون، بالرغم من أن متحداتنا الاجتماعية صغيرة، والأزمات التي يعيشها المواطن كثيرة. وهناك سهولة في الاتصال المباشر بصانع القرار المحلي ومحاسبته إذا لم يقم بواجباته التشريعية والتنفيذية. وما يجعلني لا أفهم كيف أن المواطن بعد الازمات كلها التي يمر بها ما زال يدافع عن زعمائه ويبرر عدم قدرتهم على اتخاذ قرار لحل الأزمات الخطيرة، مما يبرهن بأن التربية على المواطنة شبه معدومة وأن اللبناني طائفي بامتياز، رغم تجربة الحرب التي مر بها والتي لم يتعلّم منها شيئاً، وأن الناخب يبرهن على أنه سيئ في اختياره، وكل ما يهمّه هموم أسرته وحاجاته اليومية وربحه المالي والرشوة والوظيفة التي يحصل عليها في فترة الانتخابات أي الوعود القصيرة الأمد، لذا لا يحاسب زعماءه على الشؤون القومية وعلى عدم رسم سياسات عامة، كما أنه لا يراقب وزراءه في تنفيذ السياسات العامة ويعود وينتخب من جديد زعماءه الطائفيين والمناطقيين، لأن الحس بالواقع قد فُقد تماماً في لبنان وأن المسائل السياسية القومية والوطنية أصبحت بعيدة عن هموم المواطن. مما يدفعني للتساؤل التالي: هل سيستفيق المواطن من كبوته ويغيّر خياراته في الانتخابات التشريعية المقبلة؟
دكتورة في العلوم السياسية والإدارية
باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد