«الرحيل إلى كوكب إسجارديا» للفلسطينية شيراز عنّاب… غواية الخطاب السرديّ بوصفه ضرباً من خيال علميّ
أحمد الشيخاوي
قليلة جدا هي الأسماء التي استطاعت إقناعنا بكون الرواية، أقلّه مفاهيمياً، تتخطى ثقافة الهروب مثلما تفبركه فيزيائية فضاء البوح السّانح لهيمنة وصولة جنس الرواية، واستحواذه على الحيز الذي تتنفس عبره ومن خلاله باقي الأشكال التعبيرية الأخرى.
لتزرع مثل هذه الأسماء في وعينا القناعة الراسخة، بكون الرواية ضرورة وجودية أشدّ إلحاحاً، وليست مجرد هوامش للترف أو الموضة التي هي من إفرازات التسارع المحموم صوب امتلاك التكنولوجيات المتطورة والتقنيات الحديثة.
على اعتبار أنه لا شيء كالغرور أقدر على توليد معان للتطرف، جارفة وغير ذات قابلية للإحاطة والتطويق، متشامخة و منطلقة باتجاهات اللانهائي ناقص، الذي يكمُن بخيوط السّمّ الزعاف للعالم والإنسانية، وبنهايات كارثية ومشاهد ذروة في الجنائزية يودّ نسف الطبيعة وإبادة النسل انتهاء.
علينا تطلع الفلسطينية شيراز عنّاب، بفسيفساء سردية، من إصدار «دار فضاءات للنشر والتوزيع»، تقع في 192 صفحة من القطع الوسط، وبما يومئ إلى مخلوقات فضائية، أنامل غيبية، تميط الستار عن مسرح ترتع فيه فصول للحكي المزدان بمخيلة علمية خصبة، لا تتعمّد تسْيس الخطاب البشري، عدل ما تفجّر من رماد يقيننا بالقضية الفلسطينية، أمّ قضايانا المصيرية الكبرى، وتشعل الفراغات الموغلة في الذاكرة الإنسانية، والملوثة لمنظومة مفردات نواميس الفطرة والجبلّة الأولى، ما زغردت الحناجر بأعراس الدم، واحتفت بالولادات المتعدّدة لأشباه محمد الدرّة، وانغمست في تلوين جيوب ذلك الفراغ بإقحام واستدعاءات للرموز، تبرّكاً بصدى «حنظلة» كثائر أبدي في اختزاله لوجع أمّة برمتها.
داخل حدود هذه الخارطة الغرائبية، وفي تجاور طيفي لمعنى الأدبيات الفائضة عن معاناة استثنائية، وتشفيرات علمية تستغرق حلمية الواقع وواقع الحلم، لتنهش دونما رحمة ولا هوادة نسق الاعتيادي والنمطي، مقترحة تعبيرية تجريبية تستحق الوقوف عندها وتأملها بعين المخلوق الآخر، الواقف على الطرف المحايد تماماً، المعسكر في منطقة المابين، العابث والعدمي، غير المكترث لسوى صيحات الفتوة، ومدّ الأحلام المشروعة المشدودة إلى نوازع الذات المتهالكة الآيلة لانفجار أعظم.
القضية كفاكهة يضيق بها عالمنا، فتضطرّنا إلى هجرة جوانية، تتهادى أفقياً وعمودياً، لتختلق دمغة غيبية، تخترق آفاق الخلود،وتكفر بما هو دون فلسفة ومنطق سرمدية الترحال المحاكي لرمزية تيمة قارة في لا وعي البشرية منذ الأزل، هاجس الحرية النابع من معنيين للتضاد.
في موضع، تقول الرواية:
«تتكاثر المواقف وأضدادها بالذاكرة في نوتاته المتغيرة. لا يمرّ بها يوم إلا وفيه قصة أو حكاية. كأنها خلقت لتتحمل خطايا الأحداث لا نكهتها، هي أم استثنائية، جميلة بلا تكلف مثقفة بترف، الحياة علّمتها أكثر مما ينبغي والتجارب أشقتها أكثر مما أسعدتها. كان يجب عليها أن تكون كل شيء، أم الجميع فقد رحل عنها زوجها مخلفاً وراءه علامات استفهام كثيرة. كان ودوداً طيب القلب لم يهرب بجسده لكنه رحل بوعيه فلم يكن من ذلك النوع الذي يترك أطفاله وهو أبسط من أن يكون من الهاربين.
كان يحلّق بعالمه الخاص الذي ليس له وجود على أرض الواقع إنما بالسماء وتركها ترهق في حياة بدأتها بالصراع والتعب والكدّ، تتخبّط بواجبات ومسؤوليات لا تنتهي، وكلما تعب منها الجسد كانت تستغيث بان ينزل إلى الأرض. فهي وصغاره يحتاجونه لكنه كان يظل محلقاً هناك في عوالم سماوية من صنع أوهامه، لم يكن قادراً على العودة، كنت أنظر إليه وأشعر انه لن يعود، من دون أن أفهم شيئاً من خيالاته.
كأن الزمن والحياة تعيد ترتيب أحداثها، مع زينب ابنتها البكر، من أجل ذلك، كانت زينب هي الأقرب إلى نفسها، فهي تعيش ما عاشته من قبل، مع فارق أكبر بالظلم. فكيف تسمح لنفسها اليوم أن تنعتها بالحشرة؟».
إن هذا القبس السّردي، في تدفّق دواله الهامسة بنظرية التحول المحيلة على فرادة وجنون متاهات «كفاكا» في تشكيل فضاء الحكاية ذات الطابع أو المناخ العجائبي، ترشقنا بلذاذة نبرة الدفين في تلاوين تجعيدا ته، والطعن بإرسالية خطاب المكبوت في تمرير المعاناة مضاعفة بل وتوريثها، جيلاً تلو جيل.
هذا الصراع الرمزي والضمني الذي تنسجه حيوات متشابكة تنسج تكاملاً روحياً ما بين تناسلات دلالية طافحة بها العلاقة لـ«كوبل» ما، على وجه التحديد ومثلما يتوهم الصغار، بعدّهم ضحايا تخدعهم مرايا الراهن ببساطة وسهولة بالغة.
المسافة المحذوفة ما بين أبوة خارقة ومخترقة للحجب السماوية، ومسكونة بفضول افتضاض أسرار الفضاء دونما توقف، وأمومة شبه مقيدة بالحنين إلى الماضوية والجذور، لا بوسمها محطات للاستفادة من أخطاء التاريخ وزلاته، إنما معوّقات لروح وعقل النفاذ خارج الزمن الذي ما ينفكّ يقتنصنا بعبثيته واضطرابه ويصيّرنا إلى عبيد مكبّلين بشتى صور الذل والخنوع.
زمن الحكاية بما هي استشكال وجودي متفاقم شحنته قضية فلسطين ملء ما يتوقّف عليه لسان الحال وعالمية الحدث، وتعدد شخصية البطولة في الرواية، في واحدية الموضوعة وما تنطوي عليه من خطورة وحساسة فائقة.
«الرحيل إلى كوب إسجارديا»، تدلّل عتبة الرواية على انزياحات نفسية مهولة، ممكنة لطفو تطاحن هيستيري، قائل أو ناطق في صمت وبياضات فاضحة، وصاعقة بثقل وتراخي وخمول الفراغات تلك والمتسببة بعطل في الذاكرة.
تضادّ أبوة/ أمومة بما المشهد في تدوير وتحوير فصوله، تكريس لخطاب جلد الذات وتفريخ لأجيال بروح انهزامية، متكّسرة الأجنحة تحلم بالأفق من دون أن ترقى إليه، وتراوح بين أمل شبه كاذب وذاكرة سرعان ما تنهض من رمادها كفينيق، لتعاود سلطتها وجبروتها وتحاول الضرب بقبضة من حديد على سائر ما هو أسمى من مجرد انعتاق وانفلاتات لاستنساخات آدمية تروم مناحي الحيوات الأخرى المفقودة، في فصام محمود و استقلالية ومسؤولية شخصية صرفة.
شاعر وناقد مغربي