مَن شجّع ترامب للتطبيع بين العرب و«إسرائيل»؟
عبدالكريم المدي
أن يأتي رجل أعمال لا يفهم في السياسة شيئاً على رأس الدولة الأولى في العالم مالياً وعسكرياً وسياسياً، ينظر لكلّ شيء من إحدى نوافذ برجه في نيويورك، لا يجيد شيئاً عدا عقد الصفقات التجارية، فتلك كارثة الكوارث.
أميركا اليوم تتعامل مع الخليج والعالم العربي على أنهما سوق وواشنطن مجموعة شركات تنتج مواد استهلاكية بما فيها الأسلحة وتصدّرها لها، ومَن يشتري أكثر تتمّ معاملته بصورة استثنائية ويُعطَ امتيازات حتى لو كان يقوم بإشعال الحروب وإذكاء الفتن وسياساته تدعم الإرهاب، فلا ضير في ذلك، طالما تغريدات رجل المكتب البيضاوي تُسنده.
ربما أنّ هذه مهزلة غير مسبوقة في التاريخ الحديث تقوم بها أميركا التي تخلّت عن جميع أرديتها كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وعن مهمة شرطي العالم التي كانت تتبنّاها، بكلّ علاتها، لتتحوّل رجل أعمال متبجّحاً، لا يكترث بالسياسة ولا يعنيه إلا المال، بغض النظر عن تفاقم الصراعات وتفجُّر الخلافات في أهمّ المناطق الاستراتيجية في العالم.
وللتذكير: لقد قلنا بعد زيارة ترامب إلى السعودية مباشرة إنها قد تُمثّل عود ثقاب يُمكن أن يُشعل المنطقة ويدفع باتجاه التصعيد، ولعلّ هذا ما يحصل حالياً، من خلال الإجراءات التي اتخذتها السعودية وحلفاؤها ضدّ قطر المتهمة بدعم الإرهاب والإخوان المسلمين، متجاوزة التصنيف الدولي للرياض التي تُعتبر المتهم الأول، حتى لدى ترامب نفسه الذي كثيراً ما أكد بأنها منبع الإرهاب ومصدر التطرف، لتتحوّل الآن وبقدرة قادر من وضعية المتهم إلى موزعة صكوك الاتهامات يمنة ويسرة. وكلّ هذا طبعاً، بفضل العقلية التجارية في واشنطن، وصفقات الـ 400 مليار دولار التي عقدتها مع «شقيقتنا الكبرى».
إنّ هذه الازدواجية والتبدُّل في المواقف بناء على هذه المفاهيم القاصرة مُضرّة بالأمن الدولي، خاصة حينما تأتي من أهمّ دولة كالولايات المتحدة التي تستفزّ جميع سياساتها العالم، وفي المقدّمة مشاعر أكثر من مليار عربي ومسلم، بعملها المكشوف على تغيير تحالفات وخريطة المنطقة محاولة إسقاط القيم والثوابت والمبادئ المتمثلة بمقاطعة الكيان «الإسرائيلي» الذي يحتلّ الأرض والمقدسات وينكل بالشعب الفلسطيني منذُ العام 1948 ، وبدلاً من محاسبته على جرائمه، يكافئه ترامب بمحاولات التطبيع التي يقودها بينه وبين بعض العواصم العربية، ومن دون أيّ مقابل يُذكر، عدا وهم تشكيل ناتو عربي صهيو أميركي لمواجهة «خطر» إيران.
مشكلتنا هي أننا ننسى أو نتناسى سريعاً…
ألم تكن أميركا عن طريق حاكمها في العراق بول بريمر في العام 2003 هي مَن حلّ الجيش والأمن العراقيين ومؤسسات الدولة ودمّرت البلد وخلقت داعش كردّ فعل لكلّ ما حصل من تفويج للطائفية والكراهية؟
ألم تكن أميركا هي من تُدافع عن «إسرائيل» وتحميها وتدعمها وتُعطّل كلّ القرارات الدولية المتعلقة بمظلومية الشعب الفلسطيني؟
ألم تكن أميركا هي مَن جنّدت الجماعات الدينية من العالم الإسلامي ودفعت بها إلى أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، لتؤسّس للفكر المتطرّف ابتداء من القاعدة وصولاً إلى داعش؟
ألم تكن أميركا هي مَن سمحت وساهمت في إسقاط النظام والدولة في ليبيا وحوّلتها دولة فاشلة، ومزرعة للتنظيمات الإرهابية؟
أميركا و«إسرائيل»، يا عرب، هما السبب Number One لكلّ هذه المآسي والصراعات التي نعيشها، وربما لن تكتفيا باختزالنا مؤخراً إلى أقلّ من سوق استهلاكية لمنتجاتهما والقيام بالحروب نيابة عنهما، بل ستعملان لتدمير وكلائها في هذه السوق واحداً تلو الآخر، بدليل أنهما تعملان حالياً على ترحيل الأزمات المأساوية في كلّ من سورية والعراق وليبيا واليمن وتوجيه الرأي العام العربي والدولي لنسيانها ومعها قضية فلسطين وفي الوقت نفسه تصبّ الزيت على النار وتدفع باتجاه خلق بؤر صراع جديدة في منطقة الخليج وغيرها.
باختصار… واشنطن تُمارس ضدّنا انتهازيتها وابتزازاتها وتحيّزاتها بأشكال مختلفة منذُ عهد الرئيس هاري ترومان الذي خلف فرنكلين روزفلت في العام 1945 ، وحتى اليوم، عهد رجل الأعمال، الذي اختصرنا وصنّفنا، تلميحاً وتصريحاً، على أننا مجموعة من الإرهابيين، وشيوخ الثروات أبقار حلوبة يجب امتصاص ضروعها حتى تجفّ، وتوظيفها، أيضاً، كلما استدعت الحاجة للهروب من مشاكل الداخل الأميركي.
ختاماً: متى سنصحو وندرك بأننا نرمي بأنفسنا للمهالك لمصلحة هذا العالم الانتهازي الذي لم ينظر لنا يوماً أكثر من قوة شرائية، استهلاكية، وجهلة وفاسدين نعمل تحت خدمته؟
صحافي يمني