لا وعي لا كرامة… لا شعوب

حسين حمّود

معلوم أن إحدى المحطات التاريخية في أوروبا هي الثورات. كذلك أميركا الشمالية والجنوبية. وكانت كل ثورة في أي دولة تشكِّل منعطفاً نوعياً لها، على كل المستويات البنيوية والشعبية والاقتصادية والثقافية وغيرها من مسائل مرتبطة بها.

أما دوافع الثورات فهي رفض الظلم والأنظمة الاستبدادية وقمع الحريات وزيادة الضرائب على الطبقات الفقيرة. وأدّت الثورات التي أشعلتها تلك الدوافع إلى تغييرات عميقة، عمودياً وأفقياً، في المجتمعات الثائرة على صعيد الحكم وأداء السلطات المنبثقة منه والتي تأخذ في الاعتبار ردود الفعل الشعبية على أي قرار ستصدره.

وبنسبة أقل من الثورة، وأكثر من مجرد اعتراض على سياسات الحكم، تسقط حكومات ويأتي غيرها، بسبب ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية كالخبز أو البطاطا أو السكر.

وقد يُجبَر وزير على الاستقالة في حال ثبتت عليه اتهامات بالفساد أو إبرام صفقات مشبوهة مستغلاً النفوذ الذي يمنحه له منصبه في الدوائر الرسمية. أو في حال تصرّف بمال عام من غير حق ولمصلحة شخصية بحتة حتى لو كان المبلغ المصروف مئة دولار أو أقلّ. والشواهد كثيرة على ذلك.

واللافت في ذلك، أن الثورات في أوروبا بدأت في القرون الماضية الوسطى التي كانت تُعرف بعصور الظلام والانحطاط على مستوى حكّام الدول، ثم في العصور التي تلتها. لكن الوعي الشعبي كان مستنيراً وليس هذا فحسب. فقد دلّت تلك الثورات على إحساس بعض تلك الشعوب بكرامتها الإنسانية والتمرّد على كل من يستبيحها وإذلالها أو حتى خداعها. ومن ذلك، مثلاً، نهضت الفنون التي ترتبط بالمشاعر الإنسانية، كالموسيقى والشعر والرسم والنحت. كذلك نشأت الفلسفات المرتبطة بالإنسان وتساؤلاته الوجودية، فضلاً عن تطور فلسفات القانون وأنظمة الحكم وعلاقة الحاكم بالمحكوم وبالعكس. وتكراراً كل ذلك بدأ في القرون الماضية، وما تزال تلك المعايير هي ميزان الاستقرار الاجتماعي هناك.

أما هنا فعلى العكس تماماً.

في القرن الحادي والعشرين ومع كل التقدّم الحاصل في العالم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً وفنياً، ما تزال بعض شعوب الشرق لا تريد تحسّس كرامتها، أبعد من فتات رفاه يرميها لها ملوك متربعون على أعناقهم منذ عقود وعقود ولا علاقة تربطهم برعاياهم سوى الاستهبال، وبسرور متبادل، وصمت مطبق من الرعايا.

فكيف مثلاً، ترفع السعودية الصوت عالياً، بأنها مَدينة وتعاني من عجز كبير في موازنتها العامة ما يستدعي على عجل تخفيض النفقات عبر إلغاء العديد من التقديمات الاجتماعية التي يستفيد منها مواطنوها، وفي المقابل تزيد الضرائب عليهم كإحدى أبرز الوسائل لسد العجز.

وفجأة تبرم السعودية صفقة فضفاضة مع الإدارة الأميركية تكلف الأولى نحو أربعمئة مليار دولار في مجالات متنوعة لكن أبرزها شراء السلاح! والأكثر من ذلك، وهب الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمناسبة زيارة الأخير وعائلته الرياض للسلام على الملك وحاشيته، هدايا قدّرت وسائل إعلام قيمتها بحوالي ملياري دولار وتنوعت بين الألماس والذهب وغيرها من المعادن والأحجار الكريمة.

والأنكى من ذلك، أن الرعية كانت تبتسم لكرم مولاها، علماً أن مئات الآلاف من السعوديين ينامون بلا عشاء!

ليس هذا فحسب. فقد استخدمت الولايات المتحدة الأميركية المملكة السعودية، للتحريض ضد دولة خليجية جارة لها وهي قطر، على خلفية دعم الأخيرة التنظيمات الإرهابية وتمويلها، علماً أن وثائق ويكيليكس المسرّبة حديثاً تتهم السعودية وقطر معاً في هذا الجرم.

وقد تبع التحريض قطع عدد من الدول بقيادة السعودية، علاقاتها مع قطر وعزلها، بمباركة أميركية وتأييد مباشر وغير مباشر. لكن في النتيجة فشلت السعودية ومَن معها في مبتغاهم لعزل قطر، وكانت المفاجأة أن أبرمت واشنطن مع الدوحة صفقة أسلحة بقيمة 12 مليار دولار!

المؤلم أن الرعية كانت تبتسم أيضاً وتذهب إلى نوم عميق.

في القرن الحادي والعشرين ما زال ينقص بعض المجتمعات الشرقية الوعي الذي عرفته وأدركته أمم أخرى قبل قرون عدة عندما أحسّت أن كرامتها الإنسانية تُدعس وثرواتها تُنهَب، فعملت على صونها وإعزاز كرامتها وإجبار أباطرة دول عظمى على احترامها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى