قراءة في مجموعة «سأكتفي بعينك قمحاً للطريق»
نصّار إبراهيم
«سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق»، هذا هو عنوان المجموعة الشعرية الثالثة للشاعرة والتشكيلية الأردنية غدير حدّادين، صدرت عام 2017 عن «الآن ناشرون وموزّعون» ـ عمّان، وتقع في 128 صفحة.
قبل هذه المجموعة صدرت للشاعرة حدّادين مجموعتان: «أحلم كما أشاء» عام 2012 عن وزارة الثقافة الأردنية، و«أشبهني» عام 2014 عن أمانة عمّان الكبرى.
حين صدرت مجموعة «أشبهني»، قدّمت في شأنها قراءة سوسيولوجية تحليلية بعنوان «خافية الأنثى وظلال المعنى في نصوص أشبهني»… تعرضت فيها لبعض الأبعاد والخوافي التي شكلت نقاط الارتكاز في تجربة الشاعرة غدير حدّادين. وكانت بالنسبة إليّ فرصة لإضاءة بعض الأفكار التي تتعلق بالاشكاليات الاجتماعية التي تعيشها وتواجهها المرأة الأردنية والعربية بشكل عام وتعبيرات ذلك في النصّ الأدبي.
حين بدأت قراءة ومراجعة مجموعتها الثالثة «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق»، كانت تدور في رأسي مجموعة من الأسئلة: ما الجديد الذي جاءت به غدير حدّادين في هذه المجموعة؟ هل ما زالت تدور حول الأسئلة والتأملات ذاتها؟ ما هي النقلة التي حدثت في هذه المجموعة؟
بداية، أودّ أن أشير إلى أن ما سأتناوله من أفكار لا يشكل قراءة تشريحية للنصوص بقدر ما هو محاولة لفهم جدلية تجربة غدير حدادين الشعرية، وهي تجربة قيد التشكل والتبلور. بالتالي، هي قراءة كثيفة لوعي التجربة أكثر مما هي تقييماً نقدياً، بمعنى أن ما يشغلني وبصراحة في النصوص الأدبية سواء الشعر أو القصة أو الرواية أو الفنّ التشكيلي هو التحليل الاجتماعي للنصوص، فالنقد الأدبي أو الفنّي ليس حقل اختصاصي. فهناك من هم أقدر منّي بكثير.
هنا، وقبل أن أتناول مجموعة «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق»، وجدت من الضروري الوقوف ولو بسرعة أمام عناوين المجموعات الثلاث للشاعرة غدير حدّادين، وذلك بهدف الإمساك بذلك الخيط أو الحبل السرّي المضمر الذي يربط ما بين المجموعات الثلاث.
في المجموعة الأولى «أحلم كما أشاء» بدأت غدير حدادين من نقطة انطلاق متحركة، كانت حينذاك تتعرّف إلى أحلامها، كانت تحاول أن تحدّد ملامح تلك الأحلام وأنساقها. لهذا كان العنوان «أحلم كما أشاء»، بمعنى أنها كانت تطلق العنان لأحلامها بغضّ النظر عن اللحظة وإمكانية التحقق، كانت تقوم بتحديدها وصوغها لتعيها بدقة، وفي المرحلة الثانية أو لنقل في الحركة الثانية، أي بعد أن حددت تلك الأحلام وأطلقتها بحرّية، توقفت لتنشغل بمستوى آخر في التجربة، ركيزته الناظمة تكمن في الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن ربط تلك الأحلام بالواقع؟ بمعنى كيف يمكن إقامة جسر ما بين الأحلام المحلقة في فضاءات الوعي والواقع بما هو ذات ومحيط اجتماعي وشروط ثقافية ووجدانية، وأيضاً بما هو ممكنات وقيود.
بعد أن راقصت أحلامها كما تشاء في مجموعتها الأولى. جاءت اللحظة التي تفرض عليهاعملية الهبوط إلى الواقع، فجاءت مجموعة «أشبهني» بمعنى اختبار تلك الأحلام وفق شروط ومعادلات الحياة المتشابكة والمعقدة، هنا كان أمراً حاسماً مواجهة أكثر الإشكاليات دقة وحساسية، أقصد معرفة ووعي الذات ومحاولة اكتشافها وتقديمها كما هي بكل شجاعة بقوتها وضعفها، بمعنى هل أن ما يحلم به الإنسان وكما يشاء له ما يبرره في الذات؟ لهذا فإن السؤال المضمر الذي حملته مجموعة أشبهني يمكن أن يكون كما يلي: هل أحلامي تشبهني؟ هذا السؤال يتجاوز غدير ككاتبة للنصوص ليصبح سؤالاً اجتماعياً نفسياً وحيايتاً بامتياز. بمعنى: هل أحلام الإنسان تشبهه، أو هل يشبه الإنسان أحلامه؟ وفي أيّ شروط وضمن أيّ معايير سيشبه الإنسان نفسه؟ وكيف يمكن تحقيق التناغم ما بين الأحلام والذات والواقع؟
الإجابة على هذه الأسئلة كانت تفرض بالضرورة الاشتباك مع الذات، وفي اللحظة ذاتها دفعها إلى الاشتباك مع محيطها بهدف اختبار تلك الأحلام أو الطموحات أو الآمال في الواقع. لهذا تنهي غدير مجموعة أشبهني بما يشبه البيان: «الحب ثورة»!
من هذه النقطة تابعت غدير التجربة فكانت مجموعة «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق».
إذن، نحن أمام ثلاث حركات أو انتقالات لها نواظمها المضمرة: الأحلام المطلقة، ثم النزول بتلك الأحلام إلى الذات والواقع، ثم الحركة الثالثة محاولة ربط الأحلام والذات بالممكن والواقعي، كل هذا تكثف في مجموعة «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق!».
في هذه المجموعة لم تقطع غدير مع التجربة، بل بقيت ملتزمة بأسلوبها الخاص الذي يتّسم بالتحرك في داخل المفردة والجملة الشعرية، والأهم أنها بقيت ملتزمة بالتعبير عن نبض الحالة في اللحظة إن جاز التعبير، ومن هناك تقوم بتحريك المعنى وبناء الصورة الشعرية، لهذا نلاحظ أن غدير في هذه المجموعة تواصل الانشغال بالأبعاد النفسية للحالة، حوار داخلي، بوح واعترافات، استقراء للذات والآخر، إنها تواصل البحث عن الذات ولهذا تقول بإصرار «ما زلت أبحث عنّي» ص 50 .
هنا، في سياق الإمساك بحالة اللحظة الكثيفة تحتل الذات مفهوم المكان الأشمل، سواء الذات الخاصة أم الذات كآخر سواء كان فرداً أو مجتمعاً، لهذا قلّما نجد حضوراً للمكان بمعناه المحدّد إلا في حالات نادرة: عمّان، بيروت، الوطن بمعنى الانتماء والالتزام: «عمّان يا عطف أمي… يا كحل جدّاتي وحنّاء التراث… يا كل الذي في خاطري يا محطّات اكتمالي» ص 65 ، «عمّان أكثر من وطن» ص.69 .
وأحياناً، يحضر المكان في سياق حركة الذات كمفهوم عام: مدينة، بحر، سماء، أي المكان كفكرة وليس كمحدد.
أما على صعيد الزمن، فإن النصوص في غالبيتها العظمى تتحرّك في الزمن الحاضر، نصوص قليلة جداً جاءت بصيغة الماضي «غنّيت لثورتي الأولى» ص 7 ، «كل شيء كان هادئاً… ينتظر منّي أن أكتبه» ص 8 ، أما المستقبل فيحضر بصورة أقرب إلى الأمل والرجاء «سأغنّي للنهاية… وأن أوغل في التجربة… علّني أغنّي يوماً من دون وشاح الخوف…. سأغنّي للطريق» ص 24 25 ، «ربّما في الغد فرصة للشفاء… فلا بأس علينا سننتظر» ص 34 .
في هذه المجموعة تتحرّك خوافي غدير وأحلامها في سياق حركة وعي العاطفة المسكونة بالخيار الحرّ ما بين الذات والآخر، وأحياناً ما بين الذات والفكرة والشعور…
لكنها في كل الأحوال بقيت ملتزمة بمعادلة أو ثنائية أنا أنت في الغالب ووجهاً لوجه، معادلة الأنثى المتكلم والرجل المخاطب، هذا الالتزام والإصرار يحمل شحنة خاصة تتميز بها نصوص غدير، إنها لا تتخفى بالأنثى كشخص افتراضي غائب، بل تواصل الاندفاع والتحدي بذاتها، تواصل التأكيد على ذاتها، بمعنى الإصرار الجريء على إعلان أحلامها ورؤيتها، وأحياناً إضاءة همومها وأحزانها وخيباتها، وأيضاً آمالها وأفراحها وأمنياتها الراهنة والمؤجلة: «في شعري غرائز يابسة، وفي شعري ألتقي ذاتي» ص 11 ، «… اليوم أنا المرأة ذاتها لكن بأناقة أخرى وشعور أغرب!» ص 12 ، «… أخاف الرجوع إلى النهايات المسطرة بالضباب… أخاف الوقوع في قاع القصائد الفارغة…» ص 16 ، وفيما هي تقوم بهذا التأكيد والصقل، فإنها تلحّ على قطع الطريق المتعب ما بين اللحظة أو الواقع نحو فكرة جميلة تستحق التعب: «تستهويني الطريق المؤدّية إلى القصيدة… ينطفئ السؤال الذي يسند ضوء الحروف، أسند بالقلم فكري…» ص 21 .
إذن، يمكن القول إنّ غدير في تجربتها الشعرية تواصل التعبير عن اللحظة في سياق الحالة الأشمل، إنها في نصوصها تقوم بتجزئة الحياة إلى لحظات تفصيلية دقيقة، عبر مواجهة إيجابية بين الأنثى والرجل، ولهذا نجد أنّ نصوصاً كثيرة هي تعبير عن حالة انفعالية، أو لنقل إنها تعبير عن مزاج الإنسان العاطفي في لحظات يومه صعوداً وهبوطاً، لهذا فإنها أحياناً تصعد في نصوصها إلى ذروة الفرح والتحدّي: «في مهبّ الأمنيات… سأبحث عن وسائد لا يبلّلها الحنين… سأرتدي ثوباً حاكه انتظار الياسمين… في مهبّ الأمنيات سأخيط ثقوب السماء بإبرة الأمل… وأغزل بمغزل الطبيعة وجهاً آخر للطموح… سأعيد إحياء الطوفان… سأستعين بالغابات قبل سقوطها… سأعدّ النجوم… سأبكي على امتداد ذراع الوقت» ص 39 . وتقول: «أنا امرأة تعانق القمر… كي تنجب أل القصيدة» ص 104 .
وأحياناً، تتجلّى اللحظة على شكل ألم أو حزن أو فراغ عميق: «لا شيء لي في جعبة البريد… لا موعد لي إلا مع الحظّ» ص 17 ، أو حين تقول: «أقف في فراغ الدهشة.. أتبادل معها التحية» ص 23 .
في سياق عملية الحوار مع الذات بهدف وعيها بصورة أعمق والتعبير عن مزاجها المتحرك في اللحظة المحددة، تواصل غدير في نصوصها الضغط لوضع الآخر في مواجهة الأسئلة والخيارات، تحاول أن تجبره على الوضوح، بل وأحياناً تستفزه بسخرية: «أينك منّي وكلّي أنت… أنت اكتمالي، ولا شيء أنت» ص 10 . إنها أحياناً تشاغب وتشاكس وتستفزّ. وكلّ ذلك بهدف أن تدفع الآخر ليرتقي إلى مستوى الأحلام والأمل المنتظر.
رغم كلّ ذلك، يبقى الأمل هو الناظم، يتجلى هذا أحياناً في النصوص على شكل حالة انتظار إيجابية، أو رهان على أن الحياة تمضي، وفي أنهارها تحمل أملاً ما في أن يتغير الواقع المختلّ ذات يوم: «أيتها القصائد المعلقة… لا تلتفتي إلى الوراء وتسرعي في المسافات» ص 29 ، «أرخي أشرعة العمر المتفلِّت… لا شيء يظلّ على الحال الأولى» ص 46 .
إذن، لنقل إن نصوص هذه المجموعة هي حركة لحظات عاطفية وشعورية متحركة باستمرار لكنها لا تغادر الفكرة التي تؤكد على أن الحب في جوهره خيار حرّ تماماً، بهذا ينتهي دائماً إلى التكامل والاكتمال، انطلاقاً من هذه الفكرة الناظمة، تعبّر اللحظة عن نفسها، فهي مسكونة بالأمل والانتظار والتوقع أحياناً، وأحياناً تكون حيادية وحزينة، لكنها في سياقاتها العامة تذهب باتجاه مضيء. لهذا لا تسقط النصوص في مصيدة الشكوى والتذمر رغم الكثير من لحظات الألم والخيبة بل تستفز وتتحدّى: «يحدث وأنا أشرب صحوي عند شباك الصباح… أن أقف على أرصفة الصباح… أعيد برمجة المدينة» ص 29 .
ربما لهذا السبب أو الخافية المضمرة في أعماق الشاعرة غدير، أي خافية الأمل التي تلح عليها في شعرها ونشاطاتها الاجتماعية اختارت جملة «سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق» من قصيدة «عيناك» ص 57 عنواناً لمجموعتها الثالثة هذه… وكأنها بذلك تريد أن تقول: مهما كان الواقع في النهاية يبقى الأمل قضية تستحق المحاولة ويستحق أن نتحمل من أجله فكرة كل لحظة غير عادلة او صعبة أو قاسية.. فمن دون ذلك ستفقد البوصلة اتجاهها… وتفقد الحياة ما يغري بالاستمرار. والأمل هنا له معنى الوعي والموقف، الفكرة والموهبة. لهذا جاء نصّ «عيناك» على شكل أمنية شاملة تقودها «ليتني» من على قاعدة الاستعداد الشجاع للعطاء ودفع الثمن الذي عبّر عن نفسه بإلحاح الفعل «خذْ»:
«ليتني أكتبك فتقرأني من دون ضباب
ليتني أعيش الزمن بذكرى واحدة وأعوام منك
ليتني أعانق اسراب الحزن التي تمضي معك دوني!
خذ شيئاً من حنيني لتلمس وحشة الانتظار
وبرودة المساء!
خذ من شطآن الغياب
قُبَلاً لم ترحل معها مراكب الذكريات…
خذ ورد اشتياقي وتشمّم عطر أطيافك الذائبة
خذ وجعي منّي ولا ترحل،
سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق…». ص 57 .
ختاماً، تصل إلى ما يشبه التنفس العميق: «بعد أن نحاول ما استطعنا من أجل أن نحرس الأمل والأحلام لا يهمّ ماذا سيكون بعدها… حينها، سأكتفي بعينيك قمحاً للطريق!».