خلف: دور الفنّان خدمة المجتمع وندافع عن وطننا بالكلمة التي توازي الرصاصة
عبدالرحمن السيّد
بعد انفراج الحالة الأمنية في مدينة الحسكة، وتوقّف سقوط القذائف عليها من المجموعات المسلحة أثناء تطهير حي غويران الذي كان خارجاً على السيطرة لمدة عامين وشكّل مصدر قلق أمني وعطّل جزءاً كبيراً من الحياة في المدينة، خاصة الحياة الثقافية، يعود الجمهور الى مقاعد المركز الثقافي العربي في الحسكة لحضور العمل الثاني خلال العام الجراي لفرقة المسرح القومي في المدينة، تحت عنوان «ايسوب»، وهي مونودراما عن نص «الثعلب» و«العنب» للكاتب غيليرميه فيجو يريدو ويعتبر من روائع المسرح العالمي. واستمرالعرض أسبوعاً.
يتحدث هذا العمل عن شخصية «إيسوب» القبيح، عبد «أكسانتوس» الذي لا همّ له سوى البحث عن حريته، وشخوص النص قسمان، أغنياء مستبدّون يحقّقون ذواتهم بالمال والجمال، وعبيد فقراء وسمهم فقرهم بالقبح. وتحاول الشخصية المحورية «إيسوب» باستمرار نيل حريتها، لكن في كل مرة يستبعد من جديد الى اللحظة التي ينال فيها حريته عبر وثيقة من «إكسانتوس» فيقدم الوثيقة الى «كلايا» كنوع من الوفاء لشخص شعر نحوه بالعطف وربما بالحب: «إيسوب : كلايا…. خذيها يا كلايا… حرريني أو ابقيني عبداً. إنها أجمل لحظات التضحية…». لكن اللحظة الأسمى هي التي يعود فيها «أكسانتوس» عبداً بعد اتهامه بسرقة كأس من المعبد، فيطلب من «أكناتيوس» البقاء عبداً عنده لنخفض عقابه: «إيسوب: إذن هناك نوعان من العقاب للذين يسرقون، واحد للأحرار وآخر أخف منه للعبيد… حسناً أنا اختار عقاب الأحرار. وداعا يا كلايا… أنا حر… لا أحد سيلمس جسدي بعد الآن، لا سوط الحبشي ولا نظراتك. لا الكراهية ولا الحب…. أنا وحدي سألقي بنفسي في الهاوية».
ظهرت المونودراما مع أول ظهور للمسرح في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، على أيدي كتّاب المسرح اليونانيين أمثال أسخيليوس وسوفوكليس ويوربيدس وغيرهم، كتقليد في شكل الكتابة المسرحية، واستمر هذا التقليد على مر العصور التي تلت مع تبنّي النوذج اليوناني في الكتابة المسرحية. ولا يمكن اعتبار المونولوج داخل عمل مسرحي جماعي متكامل مونودراما قصيرة، إلاّ بما يحويه المونولوغ من عناصر سرد حكاية، أو حكاية عدد من الشخوص أو الحوادث. والمونولوغ في العمل المسرحي الجماعي المتكامل يحمل وظائف مختلفة ومتعددة تشكل جزءاً من الكل، على خلاف ظيفته في المونودراما حيث يشكل كلاً متكاملاً بحد ذاته.
نص «الثعلب والعنب» حوّله المخضرم اسماعيل خلف الى عمل مونودرامي عنوانه «إيسوب» وكان شعاره «كيف نمسرح السرد»، فالمخرج خلف يضعنا منذ اللحظة الأولى في جو أننا سنكون أمام عرف قوامه الأساسي السرد. منذ اللحظة الأولى يدخل «إيسوب» الخشبة متأملا قطع الديكور كأنه يستحضر حكايته. حيث يجلس على الكرسي مغمضاً عينيه ومتذكراً عبق مكان كلايا، ترافقه أغنية: يحكي «إيسوب» القبيح لكلايا الجميلة حكاية الطاووس الذي سخر من اللقلق والثعلب الذي لم يدرك العنب، وقبل أن ينتهي تقتح كلايا القفص، تضع «إيسوب» داخله وتتأمله، يبتسم «إيسوب» ويغني: كلايا…أنا حر…
يضفي اسماعيل خلف دوماً روحه على أي عرض له، بغض النظر عن أصل العرض، عربياً أو عالمياً. يتمثل النص جيداً ويدرك أبعاده الفكرية والإنسانية ويضع لمسته على كلّ ما يكمن بين السطور في هذا النص، على المستويين التراجيدي والكوميدي. أما إخراجيّاً فنحن أمام مخرج ينحت الحركة على الخشبة ومن الصعب أن نشعر بأن ثمة حركة مجانية أو غير ضرورية، ومن هنا براعته في ملء الخشبة بالحركة رغم أنها لممثل وحيد.
أسلوب العرض أقرب إلى الأسلوب البريشتي فالممثل يخاطب عقل المتفرّج ولا يريده أن ينفعل بالشخصية، فالأهم منها الموقف التراجيدي الذي تجسّده وتجعلنا نتأمله. والحيّز الدرامي هو الأساس في المسرحية، تتخلّله بعض لحظات الروي التي تكسر الحدة العاطفية وأعتقد أنه أمر صحيح. واستطاع المخرج عبر سينوغرافيا العرض إبلاغنا المعنى.
وحمل عبد الغني السلطان كممثل وحيد العرض على كتفيه وتألق في تجسيد «يسوب» الطيب، العبد الرقيق الحكيم. وبالبراعة نفسها تألق لدى انتقاله إلى شخصية «أكساتيوس» المتغطرس والغبي. وموسيقى العرض انسيابية وجميلة، والأغاني التي وضعها بشار الضللي أضفت على العرض جمالاً إضافياً، وهو نفسه الذي صمم اللباس والإضاءة.
المخرج اسماعيل خلف قال لـ «البناء»: «بعد أيام من الضغط النفسي والأمني على المدينة، كان لا بد من أن نقدم شيئاً إلى جمهور الثقافة، فالمسرح هو مرآة الحياة ونتفاعل كفنانين وبشر مع الحوادث، ويجب أن يكون دورنا من خلال الإنتاج الفني لخدمة المجتمع. ندافع عن وطننا بالكلمة التي توازي الرصاصة».