تبدّل المفاهيم وتحوّلها في المجتمعات المعاصرة 1
جورج كعدي
الدولة، الديمقراطيّة، اليسار، اليمين، الإيديولوجيا، الاتحاد، الليبراليّة، العولمة، العدالة، المساواة، مجتمع الرفاه… مفاهيم ومصطلحات خضعت في زمننا الراهن وتخضع باستمرار لتحوّلات وتبدّلات، بحيث لم تبق تعني ما كانت تعنيه لعقود منصرمة، بل لقرون. فالقرن الحادي والعشرون يحتاج إلى إعادة تعريف بهذه المفاهيم وتعيينها، بل إلى صوغ مفاهيم جديدة تعيد، مثلاً، تحديد العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتجديد الديمقراطيّة الاجتماعيّة، وإسباغ وجه إنسانيّ على الرأسمالية الحديثة التي باتت متوحّشة وتسعى بلا هوادة إلى الربح، ما عمّق سيادة حكم الأقليّة فاحشة الثراء، ووسّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فتعدّدت أشكال عدم المساواة، وتنامت أعداد المهمّشين، وتفشّى العنف والجريمة، وتفاقمت نسبة البطالة.
تبدو الأفكار السياسيّة اليوم فاقدة القدرة على الإلهام، والسياسيّون يفتقدون روح القيادة. كما تسيطر مشاعر القلق إزاء انهيار المعايير الأخلاقيّة وتنامي الانقسامات والأزمات. فالحياة السياسيّة لا تنجح من غير مُثُل، ولا تكون المُثُل مجدية إن لم تكن ذات صلة بما هو ممكن واقعيّاً، إذ تباينت عميقاً نظم الديمقراطيّة الاجتماعيّة على مستوى التطبيق والممارسة، كذلك نظم «مجتمع الرفاه» التي تتقاسم أصولاً تاريخيّة مشتركة وأهدافاً وبنى متماثلة. لدينا مثلاً، النموذج البريطاني الذي يشدّد على الخدمات الاجتماعية والصحة، ونموذج الدول الاسكندنافيّة التي تغدق الخدمات من كلّ نوع على المواطنين، أو نموذج الدول الأوروبيّة المتوسطة ذات الالتزامات المحدودة نسبيّاً والمبنيّة على المساهمات في الضمان الاجتماعيّ وضمان الشيخوخة، إلخ.
انتصرت «الليبراليّة الجديدة» جليّاً على المستوى العالميّ، في حين أنّ الديمقراطيّة الاجتماعية تشهد حالة فوضى إيديولوجيّة، وإذا كان ثمّة من يؤمن بالتخطيط، قبل خمسين عاماً، فلا أحد يؤمن به اليوم. لقرن من الزمن اعتبر الإشتراكيّون أنفسهم في طليعة حركة التاريخ ولم تعد هذه النظريّة صالحة اليوم. في حين أنّ المفهوم السياسيّ الجديد، أي «الليبراليّة الجديدة»، يمرّ بدوره في أزمة لارتكازه على مكوّنات ملازمة له مثل العولمة وطغيان الروح الفرديّة في المجتمعات المعاصرة، وفقدان «اليمين» و«اليسار» دلالاتهما الحقيقية، وسوى ذلك من الأزمات والمآزق التي تسم عصرنا الباحث عن مفاهيم جديدة ونظم حكم واجتماع صالحة وبديلة.
إنّ مصطلح «العولمة» المقيت يتردّد على نحو مفرط وفي كلّ مكان، فلا يُحسب أيّ خطاب سياسيّ «كاملاً»، ولا يُقبل أيّ مشروع اقتصاديّ، إلاّ إذا تضمّنا إشارة إلى تلك «العولمة» الحاضرة باستمرار في الأوساط الأكاديميّة وفي أدبيّات الديمقراطيّة الاجتماعيّة، حتى أنّها احتلّت المكانة المركزيّة في معظم المناقشات السياسيّة والاقتصاديّة. وينظر البعض إلى «العولمة» بكونها خرافة ومن ابتداعات «الليبراليّين الجدد»، في حين يرى آخرون أنّها حقيقيّة جداً، وأنّنا نعيش اليوم في عالم بلا حدود أضحت فيه الدولة القوميّة مجرّد «خيال»، وأنّ السياسيّين فقدوا في هذا العالم الجديد «المعولم» كامل سلطتهم الفعليّة. وتُفهم العولمة عادة على نحو اقتصاديّ، علماً أنّ معظم الاقتصاديّات تظلّ إقليميّة، فتجارة دول الاتحاد الأوروبيّ في باقي أنحاء العالم لم تزدد إلاّ بشكل محدود خلال العقود الثلاثة المنصرمة. لم نبلغ بعد الاقتصاد المعولم كليّاً. في حين أن التغيّر الأهمّ يتمثّل في توسيع دور الأسواق الماليّة العالميّة، فثمّة أكثر تريليون دولار ألف مليار يحوّل يوميّاً في عمليّات تبادليّة على نطاق عالميّ. تضاعف رأس المال المتقطع الأموال التي تديرها المؤسسات الماليّة بمعدّل ألف ومئة في المئة على المستوى العالميّ.
كذلك تتحدّد ثورة الاتصالات وانتشار تكنولوجيا المعلومات عميقاً بحركة العولمة. عالم من الاتصالات الإلكترونيّة الفوريّة تتأثّر به حتى المناطق الأشدّ فقراً فتهزّ المؤسّسات المحليّة وأنماط الحياة اليوميّة. تأثير التلفزيون وحده فائق الأهميّة.
لكن هل أضحت الدولة القوميّة حقاً مجرّد «خيال»، على ما يقول المفكّر كينيشي أوهماي ohmae في كتابه «نهاية الدولة الأمّة»؟ وهل أمست الحكومة أمراً بالياً؟
الواقع ليس كذلك، بيد أنّ الشكل يصيبه التغيير، فالعولمة تستقطب بعيداً عن الدولة القوميّة، وتجرف الدول في الوقت عينه نحو الأسفل، إذ تخلق حاجات جديدة واحتمالات انبعاث الهوّيات المحلية، ولدينا مثلٌ حديث في النهوض المفاجئ للقوميّة الاسكتلنديّة التي أجرت استفتاء قبل بضعة أسابيع حول الانفصال عن المملكة المتحدة. ولا يمكن النظر إلى المثل الاسكتلنديّ كمثل معزول لكونه ردّ فعل على التطوّرات البنيويّة ذاتها التي تحصل في أماكن أخرى، كما في الكيبيك وكاتالونيا. تضغط العولمة في جوانب متفرّعة تفضي إلى خلق أقاليم اقتصاديّة وثقافيّة جديدة تتقاطع أحياناً مع حدود الدول القوميّة.
لم يبق مفهوم «السيادة» يحمل معنى «إمّا كل شيء أو لا شيء». أمست الحدود أقلّ تحديداً من ذي قبل، خاصة في إطار الاتحاد الأوروبيّ. ومع ذلك، ليست الدولة القوميّة متّجهة نحو الاختفاء، فالأمم تحتفظ وستظلّ تحتفظ في المدى المنظور بقوّة حكوميّة واقتصاديّة وثقافيّة مهمّة، حيال مواطنيها، وفي مواجهة العالم الخارجيّ… يتبع