في ذكرى رحيله الـ31… تحية لروح المبدع عاصي الرحباني
رشا محفوض وسامر الشغري
قالها ذات يوم: الفنّ واسع وكبير جداً والوقت محدود وصغير ولا أستطيع أن أعيش دقيقة واحدة بلا تلحين وعطاء». عبارة تختصر رحلة المبدع الكبير عاصي الرحباني الذي مرّت في هذه الأيام ذكرى رحيله الـ31.
عاصي الذي غيّبه الموت في 21 من حزيران عام 1986 خلّف وراءه إرثاً مداده بحر من الأغاني والمسرح والشعر فكان كما قالت زوجته السيدة فيروز: «ترك مملكة من الجمال… وفل بكير».
الغوص في مسيرة عاصي الفنية يستلزم قراءة حياته كلها التي عاشها وسط الكتب والتأليف المتواصل والتعلم المستمر فلم يكن يريد لمسيرة الإبداع أن تتوقف لديه حيث قال ذات مرة: لا أعتقد أن في الفن وصولاً للنهاية هناك سير متواصل في درب ليس له آخر هو بالواقع درب الحلم».
كان عاصي الرحباني يعتبر الإبداع حصيلة بحث وتفكير عميق وكان يكتب لافتة مع كل بروفا مسرحية جديدة: الفن ابن الوعي وابن الصعوبة. وقال عن ذلك: لست معتاداً على أنصاف الحلول في الفن فالكفاءة عندي أهم من كل شيء وكنت قاسياً حتى على نفسي.
لم يتشرب عاصي الرحباني التراث اللبناني فحسب بل وجد أن هذا التراث مترابط ومتأثر ومنتم لأصل أشمل يجمع بالتراث الشامي ككل من القدود الحلبية إلى الأغاني الدمشقية الفولكلورية وغنائيات الجزيرة السورية واللالا الحموية والعتابا والميجنا الساحلية وقبلها الموشحات الأندلسية وعيون الشعر العربي القديم ليصبح الغناء اللبناني عنده صورة عن الموسيقى العربية ككل حتى أنه أكد ذات يوم أنه: على الملحن أن يقدم الواناً جديدة وبالوقت نفسه يجب أن ينتمي إلى جذور ومن يهدم الجسور بينه وبين ماضيه وتقاليده بنظره قد اغتال آباءه فبات دون جذور وهوية ومن دون ما يرتكز إليه.
وعندما تحدث شقيقه الراحل منصور واصفاً تجربة أخيه الأكبر… أنه أكبر شاعر درامي في العصر قصد بذلك تركيز عاصي الشديد على التفاصيل الصغيرة وعلى الأشياء البسيطة المستوحاة من البيئة الريفية وجو الضيعة بحكاياتها ومفرداتها فكان إرثه مستلهماً من الطبيعة بالمضمون والروح والفكرة أن الأغنية الخالدة في نظر عاصي هي الأغنية الباقية في وجدان الناس ودونهم لا يوجد فن حيث قال: لا يمكن لأحد أن يسمي نفسه جديداً أو قديماً أو ثورياً الذي سيسميه ويقيمه في النهاية هم الناس والزمان والتاريخ.
وللغوص في شخصية الراحل الكبير كان لصديق عائلة الرحباني الباحث الدكتور علي القيّم كلمة في هذا اليوم حيث أكد في تصريح صحافي أنّ الموسيقار عاصي أثرى الحياة الموسيقية والمسرحية العربية بكل ما هو جديد ومشرق وجميل فقدم أعمالاً غاية في الروعة. لافتاً إلى أنه كان فاعلاً وحيوياً ومتجدداً حيث ساهم في رسم خارطة واسعة للموسيقى العربية امتدت خارج العالم العربي، إضافة إلى تجديد التراث والفولكلور الشامي. فالكثير من أعماله وأعمال منصور مستمدة من هذا الإرث الحضاري الكبير.
ولفت القيّم إلى مساهمة الأخوين رحباني في رسم ملامح وهوية مهرجانات دمشق الدولية حيث كان لهما في كل عام مسرحية غنائية تضفي الفرح والحضور على ليالي معرض دمشق الدولي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى رحيله. مضيفاً أنّ من يتابع أعمال عاصي يجد فيها سمة مشتركة تتميز بالتجديد والبساطة والعمق والبعد الذي يهدف إلى تثبيت هوية موسيقى سورية الطبيعية.
وعن شخصية الراحل الكبير قال القيّم: كانت شخصية عاصي آسرة وقوية وبسيطة ولا يحمل المزح في العمل وهو جدي إلى أبعد الحدود وله حضوره القوي وفعله الآسر لذلك نرى اعماله بقدر ما تتميز بالبساطة والرؤى الحالمة الواعدة تتميز أيضاً بشخصية هذا الإنسان وروحه الوثابة القوية.
وقال القيّم إن عاصي الرحباني كان ايضاً حاضراً في الأفلام التي أعدت للسيدة فيروز «سفر برلك» و«بياع الخواتم» و«بنت الحارس». لكن في «سفر برلك» كانت لديه رغبة في رفض كل أشكال الهيمنة والسيطرة والاستعمار وكانه أعد لهذه الأيام.
ولفت القيّم إلى أن علاقة عاصي الرحباني بسورية وشيجة جداً وصادقة ومخلصة ووفية مؤكداً أن الكبار لا يموتون لأن لهم أعمالاً تظل شاهدة على فعلهم الحضاري واستمرار هذا الفعل في قلوب وأفئدة الناس أكبر تقدير لشخصهم وفعلهم وحضورهم.
إنكار الذات أهم ما يميز مسيرة الاخوين الرحباني بحسب المايسترو عدنان فتح الله قائد الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية حيث قال: إن الاخوين الرحباني كتبا ولحّنا وانصهرت اراؤهما ببعضها لتكون النتيجة عملاً فنياً ذا قيمة لا تضاهيه قيمة من ناحية الكلمات واللحن، وكان همهما نجاح العمل وانتشاره ومن هنا نجد ان كل الاعمال موقعة بِاسم الأخوين رحباني وهذه من وجهة نظري ناحية حضارية وثقافية مهمة جداً.
وتابع فتح الله: من جانب آخر فإن إيمان عاصي بمشروعه الموسيقي وثقته العالية بما يقوم به هو ما جعل منه حالة فريدة ومميزة في مجال الموسيقى وأهم أوجه هذا الإيمان هو التمسك بما يصنعه وثقته المطلقة بصوت فيروز.
وأكد فتح الله أن عاصي ومنصور الرحباني وفيروز رسموا هوية للموسيقى اللبنانية ورسخوا هوية الاغنية اللبنانية. كما خرجوا عن المألوف وقدموا الأغنية القصيرة خلافاً على ما كان سائداً في تلك الفترة وهي الأغنية الطويلة كما استخدموا كلمات رقيقة وبسيطة وقريبة من الناس.
وقال فتح الله إن الأخوين الرحباني استفادا من الاغاني التراثية السورية بشكل كبير حيث جالا في كل المناطق السورية. وكانت قد غنت فيروز الكثير من الالحان التراثية السورية منها ما حافظت عليه بكلماته ولحنه ومنها احتفظوا بلحنه وغيروا كلماته ومنها ما قاموا بتطويره ولا ننسى اهتمامهم بالموشحات وتوثيقها وتقديمها بطريقة مختلفة حيث لعب التوزيع الموسيقي دوراً كبيراً فيها.
عاصي الرحباني ولد عام 1923، وتوفي عام 1986، هو عميد ومؤسّس مع أخيه منصور الرحباني الظاهرة الفنية التي عرفت بِاسم «الأخوين رحباني»، وهو مؤلف موسيقي ومسرحي وشاعر وقائد موسيقي.
«سانا»