التشكيليّة ريتا النخل لـ«البناء»: الرسم عندي حالة وجودية قصوى

اعتدال صادق شومان

متانة ولمعان وإغراء، هذا التوازن الطريّ كأنه في العمل من دون جهد. لوحات ريتا النخل متعة بامتياز، إذ للقشرة اللونية الأثر في العين. من يَزُر متحفها يشعر بالنشوة إنما بغير تطرّف، وعينه تؤخذ بما ترى وهو كالسائح في منظر لونيّ فضفاض عائم هنا، ومتأجج هناك، بل عائم ومتأجج في آن، وغير ثابت على حال.

المنظر روائيّ وصفيّ رغم أنه تجريديّ وجدانيّ غنائيّ، وكذلك غير تأمليّ، أي أنه منظر بصيغة البحث عن معنى للمنظر، ينبوعه داخليّ وحركته نفسية وحياكته انفعالية.

سرّها في منزلها القائم على كتف بيت شلالا، القرية الحالمة على ضفاف نهر الجوز الرائع الانسياب.

لوحاتها هنا وهناك، منتشرة في أرجاء المنزل، عُلّقت على الحائط أو تحتلّ الفائض من الزوايا. الألوان عند ريتا النخل مكانها في اللوحة، فالتلاعب باللون وفنّ مزجه لهما قصة طويلة تختلف أسرارها وخباياها من فنان إلى آخر.

لوحة ريتا النخل نظيفة الألوان حريصة في استعمالها ومزجها وإظهارها جذّابة قوية تمسّ أعماق الروح وتلهب فيها مشاعر السحر، وتنقلها إلى عالم الأبد. عالم يضجّ بالحياة، يكتنفه السرّ بوحي من الرهبة يخيّم عليه الهدوء، وتفيض منه السعادة.

هوذا عالم الفنان، عالم الحبّ اللامتناهي. عالم الحرّية التي لا تعرف حدّاً، عالم كلّ شيء فيه جمال ومحبّة وأحلام، عالم يتخطّى الزمان والمكان، بما هو واحة من أبدية حيث لا نظم، لا مقاييس، لا ديمقراطية، لا دكتاتورية، لا جوع أو عطش، لا حرب، ولا بؤس.

للباحث عن ريتا النخل يجدها في عالم الفنّ، موئلها الأول والأخير وقد دخلته من بابه الواسع لأنه باب السحر والجمال. ميزتها إظهار الدقة في تفاصيل لوحاتها.

في أعمالها نكتشف الرشاقة والحذق في استعمال الريشة، خطوط رسومها واضحة ومتناسقة تدلّ على مهارة في الترتيب وأناقة ارستقراطية.

تتركنا ريتا النخل في حيرة بين لذّتين: أن تتذوق الوجه المتطوّر جدّاً للمنظر الطبيعيّ كما هو ردح على تصوير منذ ربع قرن تقريباً، أو أن ننفعل بالحال التلوينية الغنائية التجريدية ونقع في الطرب البصريّ كما الأشجار وبيت شلالا . واللّذة الأكمل نجدها في المعرض الأخير «تحية إلى نزيه خاطر» والأعمال الأخيرة تتماسك وتتكامل وتضيف اختماراً إلى ما نعرفه من جرأة تركت خصبها في لوحة ريتا النخل.

هذه الجرأة توسّع أفق التعبير، تعمّق معنى الصوغ، وتجعل التصرّف في فضاء العمل أمراً ممكناً وكأنه منتظَر.

تشدّ وتخطف وتستملك وتدجّن وتتصدّر العقل، مثلما تتصدّر العواطف، وقبل أن تتصدّر العين. والغريب، الطراوة التي تصل إليها، والغرابة التي تصل إليها بالعنف، وجائز هنا الكلام عن حال العنف الوحشيّ. والعنف هنا المعاني العريضة إنّما الجليّة. ومن الفعل الغرائزي الذي يظلّ دائماً تحت الرقابة.

تقول ريتا النخل إنّ عملية الرسم تبدو دائماً مركّبة ومعقّدة وكأنها تنادي على أشياء لا تحصى موجودة فينا. «فأنا أرسم مثلاً لأنني غير قادرة على التوقّف عن الرسم. التصوير بالنسبة إليّ أكثر من مهنة وأعمق من لعبة ثقافية، إنه حالة وجودية قصوى، فأنا أبدأ بالتصوير في حالة مضنية، وعندما أخرج من العملية التصويرية أجدني في مكان آخر، كمن نقش على صورة في غابة مليئة من الألوان أو كمن يقتلع جلده ليصنع منه لوحة، لوحتي هي هويتي، هي حالتي الفعلية».

وتضيف: توقّفت أولاً عند الطبيعة ليس فقط لكونها تحيط بي في قريتي، إنما لكونها أحد المواضيع الرئيسة في الفنّ اللبناني. تخطّ بكل عصبي حروفاً في نصّ مكتوب. شجرتي مؤلفة من أوراق مدوّنة حروفياً. وتوصّلت إلى أعطاء الطبيعة التي أصوّرها زخماً تعبيرياً انفعالياً على مسافة صغيرة من العواطف العنيفة والغرائز شبه العدوانية. فأنا لا أرسم، أنا اصرخ، أنا أرسم ما تراه العين في خباياها، كأنّي أبحث عن العلاقة السرّية بين بصر الفنان والطبيعة. أرسم الطبيعية بعد أن تكون الطبيعة قد تلوّنت بمشاعري.

يبقى أن نقول، إنّ الموهبة عند ريتا النخل لها مكانتها الأكيدة، لكن الموهبة تبقى بدائية ما لم تتبلور بالثقافة والعلم، وهذا هو سرّ غواية ريتا النخل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى