الأكثري المقنّع!
أسامة العرب
لاقى إقرار البرلمان اللبناني مؤخراً قانوناً للانتخابات يعتمد نظام الاقتراع النسبي لأول مرة في تاريخ البلاد، ترحيباً لدى العديد من القوى السياسية وفي أوساط المجتمع المدني، رغم الملاحظات العديدة على بنوده.
ما غفل الكثيرون عنه هو أنّ العمل بنظام التمثيل النسبي، يتطلّب أكثر من أية نظم أخرى، الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من القضايا الأخرى، بالإضافة إلى مسألة اختيار النظام الذي يتمّ اعتماده. إذ إنّ لتلك القضايا تأثيرها على نتائج الانتخابات من الناحيتين الميكانيكية والسيكولوجية، من خلال تأثيرها على السلوك الانتخابي لكلّ من الناخبين والأحزاب السياسية على حدّ سواء.
صحيح، أنّ النظام النسبي يُطبّق اليوم في 45 في المئة من دول العالم، أيّ في حوالي 90 دولة من أصل 196، كالجزائر، أنغولا، استراليا، النمسا، الارجنتين، بلجيكا، بوليفيا، البرازيل، بلغاريا، بوركينا فاسو، بوروندي، كامبوديا، كاب فيردي، كولومبيا، سورينام، تركيا، كوستا ريكا، كرواتيا، قبرص، تشيكيا، الدانمارك، الدومينيكان، غينيا الاستوائية، استونيا، فنلندا، المانيا، اليونان، غينيا بيساو، ايسلندا، اندونيسيا، السويد، اوروغواي، ايرلندا، «إسرائيل»، إيطاليا، اليابان، لاتفيا، ليسوتو، ليبيريا، المكسيك، مولدافيا، نيوزيلاندا، هولندا، سويسرا، نيكاراغو، النروج، قبرص التركية، الباراغواي، البيرو، بولندا، البرتغال، رومانيا، اسكتلندا، سلوفاكيا، جنوب افريقيا، كوريا الجنوبية، اسبانيا، سريلانكا وغيرها. لكن بالرغم من ذلك، يُجمع خبراء الانتخابات حول العالم أنّ اعتماد الدائرة الانتخابية الصغرى في النظام النسبي، يقوّض النسبية من فوائدها ويرجع سبب ذلك إلى أنّ عتبة النجاح في الدائرة الصغرى تكون الحاصل الانتخابي، أيّ قسمة عدد الناخبين على عدد المقاعد، ما يجعل النظام النسبي في هذه الحالة أشبه بالأكثري منه إلى النسبي.
فالدائرة الصغرى تغلّب الاعتبارات والمصالح المحلية والفئوية والشخصية على الاعتبارات والمصالح العامة والوطنية في اختيار النواب، وتسمح بوصول نواب إلى المجلس النيابي ينحصر همّهم واهتمامهم بإرضاء ناخبيهم ومصالحهم الخاصة وبتحقيق منافعهم وأهدافهم الفئوية والخصوصية على حساب مصلحة الوطن ومصلحة جميع المواطنين، وإلغاء أو الحدّ من دور الأحزاب والقوى السياسية التي تعمل على الصعيد الوطني وفق برامج ومشاريع عامة تخدم مصالح المواطنين جميعاً ومصلحة الوطن عامة، وإفراز مجموعات أهلية منفصلة داخل الوطن يمكن مع مرور الزمن أن تتعصّب وتنعزل وتنغلق على نفسها وتتناقض وتتناحر بينها مما يهدّد وحدة المجتمع والوطن.
وقد تبدو تلك المؤثّرات متواضعة للوهلة الأولى، إلا أنّ هذه الاختلافات حقيقةً هي اختلافات مفصلية في ما يتعلق بنتائج الانتخابات، ومن شأنها أن تؤدّي إلى تغيير كلي في تركيبة البرلمان، وبالتالي في التشكيلة الحكومية، وقد تؤثر كذلك في شرعية الانتخابات ونتائجها. وأبرز مثال على ذلك هو أنّ الدائرة الصغرى تسمح بظهور الأحزاب المتطرفة. إذ كثيراً ما تنتقد هذه الدائرة لكونها تفسح المجال أمام الأحزاب المتطرفة، اليسارية أو اليمينية على حدّ سواء، للحصول على تمثيل في البرلمان. فقد رأى الكثيرون في أنّ أحد الأسباب خلف انهيار جمهورية ويمر في ألمانيا يعود إلى كيفية إعطاء النظام الانتخابي النسبي الفرصة للأحزاب المتطرّفة اليمينية واليسارية للحصول على موطأ قدم لها في السلطة.
وما يقلق حقيقةً اليوم، هو إعادة العمل ببيروت الشرقية الدائرة الأولى وبيروت الغربية الدائرة الثانية ، تماماً كما كانتا في الحرب الأهلية. الأمر الآخر، هو غياب المساواة في تقسيم الدوائر، فبعضها صغير جداً لناحية عدد المقاعد المُخصّصة لها والآخر كبير جداً. كذلك، فالوجه السلبي في قانون النسبية الجديد، هو اعتماده على القائمة المغلقة وحصر الصوت التفضيلي الوحيد في الدوائر الصغرى، ما يُفقد الناخبين حقهم الطبيعي بتحديد الأشخاص الذين يرغبون بالانتخاب لهم من ضمن اللائحة، أو على الأقلّ شطب أسماء الأشخاص الذين لا يؤمنون بكفاءاتهم أو نزاهتهم. فالقوائم المغلقة تعتبر أقلّ قدرة للتفاعل مع المتغيّرات المتسارعة في الجو العام، ففي انتخابات العام 1990 في ألمانيا الشرقية ما قبل الوحدة، اكتشف أنّ أحد المرشحين على القوائم المغلفة قد ارتكب جريمة قبل أربعة أيام فقط من موعد الانتخابات، الأمر الذي أدّى إلى طرده من الحزب بشكل فوري وعلى الرغم من ذلك لم يكن أمام الناخبين الراغبين بالاقتراع لذلك الحزب أيّ خيار آخر سوى الاقتراع لذلك المرشح، وذلك لكون القوائم مغلقة. أما في غرب أوروبا، حيث تعتمد القوائم المفتوحة، فيستطيع الناخبون تحديد مرشحيهم المفضلين ضمن قائمة الحزب، بالإضافة إلى اختيارهم للحزب المفضل، أما ترتيب المرشحين الفائزين عن كلّ حزب فيستند إلى عدد الأصوات التي يحصل عليها كلّ مرشح بشكل فردي. وفي دول أخرى، يتمتع الناخب بعدد من الأصوات يساوي عدد المقاعد التي يتمّ انتخابها، حيث يمكنه توزيعها على مختلف المرشحين، وذلك سواء كانوا يتبعون لحزبٍ واحدٍ أو لأحزاب مختلفة، أيّ أنّ الناخب غير مقيّد بالاقتراع لصالح مرشحي حزب واحد فقط.
وأخيراً، يبدو جلياً أنّ إبقاء الإشراف على الانتخابات بيد وزارة الداخلية، واعتماد البطاقة الإلكترونية في الانتخابات عوضاً عن الهوية ، يمكن أن تستخدم كأداة ضغط على بعض الناخبين، واحتساب الحاصل الانتخابي مقياساً للفوز يؤدّي في بعض الدوائر إلى حرمان عدد من المرشحين من الوصول إلى البرلمان، وهذا ما يناقض أهداف النظام النسبي. ويؤدّي إلى إقفال النظام السياسي ويعيدنا إلى مبادئ نظام الأكثرية. أما الحلّ الوحيد فيكمن بإعادة تصحيح الخلل بقانون تعديلي جديد قبل فوات الأوان، فنحن في لبنان لا نصلح سوى لتطبيق النسبيّة الشاملة والكاملة مع الدائرة الواحدة، أو على الأقلّ في الدوائر المتوسطة بهدف تغليب الاعتبارات والمصلحة العامة الوطنية على الاعتبارات الشخصية والمصالح المحلية والفئوية، وتعزيز الحوار السلمي والديمقراطي والمشاركة في المبادئ والأفكار والمشاريع الوطنية، والحفاظ على وحدة الشعب والوطن، وتعزيز دور الأحزاب السياسية ومشاريعها العامة التي تطال كامل الوطن. فضلاً عن ذلك، فيعتبر نظام الاقتراع النسبي على الصعيد الوطني الأقلّ كلفة والأسهل من حيث متطلّباته الإدارية في ما يتعلق بترسيم الدوائر، لكونه يستند إما إلى وجود دائرة انتخابية واحدة على المستوى الوطني، مما يعني انعدام الحاجة لأية عملية ترسيم على الإطلاق، أو إلى دوائر انتخابية كبيرة تتطابق في حدودها مع حدود التقسيمات الإدارية القائمة أصلاً، كالأقضية والمحافظات.
محامٍ، نائب رئيس الصندوق الوطني للمهجَّرين سابقاً