«نقضت غزلها» لأحمد مصطفى سعيد… شعريّة البوح المسكوب بتقشّف!

أحمد الشيخاوي

في المسودّة الأحدث له، انتقى لها وسوم «نقضت غزلها»، والتي لم تخلُ من ثغرات بكلّ تأكيد، بالأخص في ما يرتبط بالشحّ المضروب على روح التعاطي السّلس مع أدوات الترقيم، والتعامل الحذر مع آليات إيقاعية وتركيبية ولغوية أخرى كان من الحريّ بها أن تؤثّث الفضاء الفائض عن معمار شعري أكثر استساغة وسلطة على الذوق، يستأنف المبدع المصري أحمد مصطفى مقامرة القفز على معجم المفردة الصافية الطنّانة، ليتخطّاه إلى الغوص عميقاً وبعفوية بالغة، في روح اليومي وعصارته، ضمن حدود التحامه بحديث الريف المصري، ولا شيء كالاستغراق في الرؤى الملحمية، يمنح نظير هذا الفعل الإبداعي، نكهة الغموض المقبول في معالجة أغرب الظواهر النفسية وأعقدها.

توقّعت منهُ وهو يتبرّك بهذه العتبة المشدودة إلى مرجعيات المقدّس، إرفاقها بما هو باعث على رمزية أحوى وأعمق، من قبيل إدراج إشارة مؤكدة دالّة على نيّة مسبقة وسابق إصرار في توريط المتلقّي وإعداده لسلسلة الصعقات المفترض أن تنجم عن سريان النصّ ودفقه وانتشاره ككتلة مجتزئة، بعد ما يمكن أن نسمّيه طور الموت الضمني للمبدع، تقيّداً بالخطاب السِّيري المنوط بولادات مانحة للمعنى تجدّده وزئبقيته وتعدّده، ومن ثمّ تلقّي الرسالة بصدر رحب وفهم مغاير، يتناسب ومنظومة الاختزالات وما على شاكلتها من مواصفات والجة في حقل الدلالة المثخن بمرارة تجربة الاغتراب بكامل التجلّيات، والمحاصر بتمثل ديباجة الشخصية القلقة الشكّاكة والمراهنة على الوهم، مثلما ينجذب إليها، جيل ما بعد قصيدة النثر. بحيث لا زوائد تعيق حركية وتفشي النصّ الجديد المُنْكتِب لأغراض مخلخلة لراهن ناقص و معيب، فضلاً عن لائحة قيميّة طويلة جداً، يعوز هذا الراهن، عنصر الإخلاص في شموليته، وليس فقط ضمن ما تحتكره الصلة العاطفية والنعرة الحميمية بين النوعين.

لكنها عتبة أتت هكذا: نقضت غزلها. أي جملة فعلية إخبارية تفيد التحقّق والوقوع الفعلي وانقضاء الأمر، ما يقطع الطريق أمام أي انطباعات قد تُعطى أو حدوس قائلة بإمكانية التعثر بمفاجآت وتشويق كمون النَّصّانية في شعرية من هذا الطراز، اطّراداً مع ما يُحتمل مطالعتنا به تدريجياً.

بيد أن ما يبدّد ذلك كلّه، كما سوف يتّضح لاحقاً، كمّ الإحالات المتفجّرة عن توقيع إحدى قصائد المجموعة، بما يشي بلعبة انتقال من تركيب للعتبة وبناء لدوالّها، على المجهول والغيبي. لعبة تحوّل تستقرّ عند ما هو معلوم انتهاء، «بنلوب» نقضت غزلها، مسايرة لما يمنح جسد الشعرية توازناً وخيطاً ناظماً جديداً، مدغدغاً بأنامل التحكّم في مجريات القول الشعري، تطلّعاً لمنجز يلتزم بالانزياح الدالّ والتكثيف المعقول والترميز الممانع على دائرة الإبهام، وإن ناوش عند حدودها، ودنا أكثر من المشاهد الضبابية والأصوات الدفينة، بما المسألة في كلّيتها، أشبه بمحاكاة لما هو شذوذ يقود أحياناً إلى وأد المعنى في منتصفه، ويلسع بالفشل المرير في تمرير البعد الرّسالي المرجوّ من وراء عملية الاكتمال النصّي.

أول ما يتبادر إلى الذهن، إزاء اصطدام مخمليّ ومبدئيّ، بعنونة هذه المسودّة، سيل جارف من التّصوارات المصمّمة لتعاطف خاص مع حمقاء مكة المضروب بها المثل في القرآن، وفق دورة عبث وعدمية كاملة، سرمدية لا تنقطع، وهو إسقاط يصدق على حال «أمّة العرب»، هذا الذي نعيشه، ونحن نعي سلفاً أنه يفضي إلى النهاية المأزومة والنفق المسدود، مع هامش محرّض على تدارك الحالة المرضية التي تقدّ لحظتنا من الجهات كلّها.

لقد وفّق نوعاً ماً، شاعرنا، في بلورة عالم المعنى الفرعي، المنبثق أو المتفتّق عن بذرة كينونية، أسعفته في سوق ملاحم وجلبها من أزمان وعصور مختلفة بهدف توظيفها بإحكام، تبعاً لقوالب شفافة وبسيطة، تهجو وتدين الحاكم والمحكوم على حدّ سواء، وتضع كلاً من الضحية والجلاد على كفّتي وئام في خصيصة المسؤولية وتحمّل الوزر في شأن ما الظرفية إليه آلت، وبه تجاوزتنا دوّامة التبعات.

في اعتقادي، لو جاء المخطوط تحت غلاف «كالتي نقضت غزلها»، لسهّل علينا فعل المطالعة، ولجاد علينا بطاقة مضاعفة تدلّل لنا خطو المغامرة، وتجعلنا نحرق حشواً ومراحل مملة لم تك ضرورية، في وثاق ملحمي يرسم مرثاة أمّة زلزلت زلزالها ببداهة باتت لا تخفى على أحد.

أمّة تفتتت وكأنّ سرّها الجوهري في ذلك، فقدانها لميزة الإخلاص في وافر إيجابياتها وثقلها السحري على الذات والمجتمع والروابط بشتى صنوفها، إلى جانب تفويت مجانية الوقود المانح لاسترداد الأنفاس، والتزود لوعثاء القادم كضرورة في جميع الأحوال، لإكمال المسير باتزان وتوكّل وحيطة، وهو أمر لن تجود به سوى شجاعة العود إلى محطات السطوع والمجد والسؤدد عبر تاريخ وردي وإن بأخطائه، لسنا ننكر كيف أن الصوغ الجديد له، وليس بالضرورة حماقة استنساخه، لا تكلّف شيئاً، البتة.

كانت لتترع عملية تلقي كهذا خطاباً ملحمياً، نشوة استيعاب الطيفي الزاخر بتلاوين مفردات الحياة والتفاؤل والتماعات الخيالي الرّجيم، برغم الانقياد المشهود لجغرافية سردية مرتهنة التجربة بمرايا ذاتية لا تخون الواقع أو تتحايل عليه حتى.

لنتأمل الومضات الموالية:

«إن جئت فلا تندم

فلا مكان عندنا لقدم

كلّ شبر محجوز مسبقاً للغم

أو قبر يفغر فاه لحلم ضحية

صديقي بإيجاز انتظر

اضغط على زرّ التلفاز واستمتع

بالمسرحيات الهزلية التترية».

«أشباح الوحدة تخيف صغارك

ارجع وابتع بكلّ قرش باقٍ في جيبك

طعاماً وأيقظهم برفق ما هم بنيامٍ

واقصص عليهم من تحت الغطاء

بعضاً من آيات أماسيك أماسي العشّاق

تذهب عنهم رجفة الأبدان».

«لا تقفي خطى أناتي

هشّمت صفعة غدرك

قوارير العشق في فؤادي

وعطرك المعبّق منّي تبخر

فأبقي مكانك زهرتي قديستي

وقت البكاء تأخر

صدّقيني

أعددت للفراق سفينتي».

«تركت الأرض كما هي دامية

والسماء مرتدية ثياب الحداد الرمادية

والدار تسكنها الأشلاء

فكيف عادت الليالي القمرية؟»!

«تغيبين

فيغيب عنّي الكون بما فيه

ويبقى لي الحزن فيافيه

فآتيه وحدي

بلا رفيق

بلا دليل

ولا مجير

غير طيفك

طيبك

يا وجه الملاك

وصدى من بعيد

أحبّك».

«في الزمن المقلوب

الحرّة تأكل بنهدها

والغواني ساعة الفخر

نحن أولاد ملوك

وصمت أهل العوز لهن

تصديقاً».

«تشمّها الابتسامة

فحاذر عينيها

إن حدّقت

دقّقت

أطلّت الابتهال

فحسنها

من الرحمن آية

رغم الخمسين خريفاً

كلّ خميس

تسبق النهار

لتفترش أرض السوق

تحمل على الرأس

أحلام الأيتام

وعلى الكتف

ابن عام

لتعود

بلحمة العيد

دواء السعال».

ما سوف نهتدي إليه، يثبت عكس ما يقوله السياق الملحمي جملة وتفصيلاً. باعتبار ما دارت عليه الذات من غنائية وامضة، تراوح ما بين العام والخاص، والشهواني والصوفي، على مستوى إفراز الحمولة الهذيانية وتحرير القابع في تلافيف اللاوعي.

رسالة تزهد في تقليد نيّة تمرير العظات والحكم، وتنأى إلى أعشاش البوح العاجية، من حيث هو بوح لا يتمّ سكبه إلّا بتقشّف يليق ومناخ غرائبية المزج والمزاوجة ما بين ملحمتين مختلفتين، كأنما الحاصل أقرب إلى توأمة مجنونة بين الماء والنار، قصد الخروج بتهويل وتهويم وطوباوية متساوقة وبرزخية الوجع الجمعي، طبق الحجم الذي تختنق به شرايين «أمّة بكاملها»، لا كما نتوهّم ونسوّقه على أنه حالة سلبية موغلة في العولمة، تستنفد معاناة كاملة، بما العملية مصير يائس تحت سقف التسويف والمماطلة وتجريب الأقنعة.

«بنلوب» نقضت غزلها…

هذا هو لبوس جوهر المخطوط، تتطاير ألغازه شظايا، هامسة بمواويل انفصام الذات. من الهامش إلى المتن، هو إبدال نزق، يطعن ليتمكّن، بداية يستحوذ بسرب احتمالات، سرعان ما يبدّدها، بما الممارسة كأنما تولد على مقاسات طقس لا هوثي، ومحض إفصاح عن فوضى تعبيرية مُطاعة.

من هنا تبدأ حكاية الذات العيية بنزيف الذبح، ذبح الحرف والهوية والحلم.

تناغم ملحمتين، وولادة ذات شأن وعنفوان، تتخلّل مشهدين مطفأين، ومعنيين مختنقين، مجاراة لقصائد تستدرج المتلقّي إلى ملكوت الصدمة والوعي الحقيقي بأزمة توشك أن تغتال «أمّة» تلبس زمنها وتقرأ فنجانها بالمقلوب.

لا شيء متروكاً للصدفة، بدوره الإهداء ها هنا له وظيفته ومغزى إقحامه في اللعبة الكلامية.

أدوار تتوزّع بنسب متفاوتة، لتغدو مُلزمة بالتشبث بسائر معايير ومكوّنات الفسيفساء، لضمان متانة وصرامة إبداعية، هي في بعدها المحايث، مولّدة بنكهة الهشاشة والغواية التي يمكن أن يحظى بها جسد قصيدة ما، تحترم الذات والذائقة والمرحلة.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى