«وصية» فيصل الراشد على خشبة «الحمراء» في دمشق
جمال محسن عفلق
في لحظة ما، وعندما يخيّم السواد فوق المدن، وتعصف بالأطفال رياح الموت، كلّ شيء محاصَر ورائحة الموت تلك لم يخفِها ثلج كانون الأول الذي كان يتساقط في ذلك اليوم على مدينة عدرا العمالية، وتحديداً في صباح الحادي عشر من كانون الأول عام 2013 وفي تمام الساعة السادسة صباحاً. كانت قطعان الإرهاب الأسود برصاصها الأعمى تجتاح أرواح سكان تلك المدينة قبل أجسادهم، فالمدينة العمالية كانت ملوّنة بكل أطياف الشعب السوري، ولكن الإرهاب قرّر تمزيق تلك الأرواح وفرزها على الهوية الطائفية فحرق من حرق، وبمكبّرات الصوت كانت الأسماء المطلوبة يتم الإعلان عنها والويل لمن يحمي أحد المطلوبين.
في تلك اللحظات، وتحديداً في قبو البناية رقم 16 في الجزيرة السادسة، جلس الكاتب فيصل الراشد وكان قد خبّأ أحد المطلوبين في بيته، فلازمه هاجس إقامة الحدّ عليه عقاباً له على إنسانيته، وبدأ يكتب «الوصية»، يصوّر فيها كل ما يحدث حوله، ويجسّد حالة القلق الإنساني وذلك الصراع بين الأرواح المنكسرة والحياة. فالموت سيطرق أيّ باب في أيّ لحظة، وما تبقى لدى المحاصرين هو الانتظار الذي كان أقسى من الموت نفسه. فلا أحد يعلم عن جيرانه شيئاً، ولا أحد يستطيع إحصاء عدد الشهداء، وهل تلك الأجساد الممزّقة في الشوارع وجدت من يدفنها أو يتعرف إليها أم لا، ولكن فيصل الراشد كان يمثّل كل السوريين في تلك اللحظات، وكان يشعر بواجبة الأخلاقي والإنساني تجاه من عاش بينهم، ويلتقي بهم كلّ صباح، يتبادل معهم التحية. فهو يعرفهم ويعرف كيف يعيشون، وليس بينهم إلا الكادحين الذين نذروا حياتهم من أجل العيش بكرامة وشرف.
كانت «الوصية» التي كتبها وأوصى من يثق به إذا ما اختاره الموت أن يوصلها إلى صديقة الكاتب والمخرج المسرحي ممدوح الأطرش، وكان أن خرج من الحصار وحمل وصيته معه وسلّمها للمخرج ممدوح الأطرش بنفسه، والذي قام بدوره بالعمل على رسم رؤية بصرية جديدة تماهت فيها لغة الجسد مع أداء الممثلين بمشاركة أكثر من ستين فناناً وفنانة، لم ينقطعوا يوماً واحداً عن التدريبات. ورغم تعرّض مخرج العمل لوعكة صحية أثرت على عينيه، إلا ان العمل بقي يسير على الوتيرة نفسها، فكانت وصية ممدوح الأطرش بعد تعرّضه للعارض الصحي ألا يتوقف العمل، ولا بدّ للوصية أن تخرج إلى النور وهذا ما كان.
العمل هذه الأيام سيُعرض على مسرح «الحمراء» في دمشق، لا ليحلم مع الحالمين بل ليجسد حقيقة واحده حقيقة السوريين بكل ألوانهم وأطيافهم. العمل يتحدث عن لحظات حقيقية، فقدت فيها الإنسانية كل مقوماتها وصار القتل على الهوية الطائفية. الوصية هي أمانة فنية لم تكتب من خيال كاتب بل من واقع تعيشه المنطقة منذ سبع سنوات. هذا الواقع الدموي الذي بدأ يغيب بفضل بقاء من بقيوا على أرض سورية وبفضل شعب صبر وصمد وبفضل جيش قدّم الغالي والنفيس وحلفاء أقسموا على تحقيق النصر.
اليوم، صوت الفنانين على خشبة مسرح «الحمراء» في دمشق وعلى مسرح معرض دمشق الدولي هو رسالة الى الإنسانية بأننا شعب لا يموت ونعشق الحياة لأن الحياة تتزين بأرواح المنتصرين.
والوصية اليوم تعرض مع تحقق نبوءة الجندي السوري وهو يقول آخر كلماته في وجه قاتله «الداعشي» «والله لنحميها».
فمنذ بداية الحرب على سورية وعلى المنطقة، ورغم كلّ عمليات القتل المنظم وذلك السعار الإعلاني الذي هدّد بزوالنا، والذي ارتدّ اليوم على أصحابة وبدأ يفترسهم، وأن لعنة سورية لم تنتظر طويلاً على كل الذين ظلموها. تلك اللعنة التي لن ترحمهم، فكل عواصم الغدر ليست إلا مدن فارغة عندما تغنّي دمشق. فمن «الطريق إلى الشمس» إلى «الوصية»، رحلة صمود للفن الوطني، الفن الذي لم تغريه الأموال ولا العروض الخارجية، وبقي متشبثاً بأرضة ليكمل رسالة الإنسان السوري الأصيل.
الإرهاب الى الزوال وسورية باقية، فتحية لكل من أمن بالنصر في زمن الهزائم الأخلاقية.