الحدود السياسية حاسمة في تركيب التوازنات الجديدة
د. وفيق إبراهيم
انقلاب الخريطة السياسية بشكل كامل، يفرض تغييراً في موازنات القوى والمشاريع. هذا ما يكشف عنه التاريخ السياسي المعاصر والحروب التقليدية والعالمية، إلا أنّ السياسة الأميركية تعمل على إجهاض هذا المنحى الطبيعي فيبدو ضرورياً اللجوء إلى مقارنة سريعة بين الجغرافيا السياسية لبلدين هما العراق وسورية، وكيف اختلفتا جذرياً في الأشهر الأخيرة.
فمنذ ست سنوات متواصلة فتّت المشروع التكفيري العراق، مستولياً على معظم مناطقه بدعم من الجارتين تركيا والسعودية وتحت غطاء أميركي واضح للمتابعين. وفقد العراق بالتالي السيطرة على حدوده السياسية مع سورية والأردن وتركيا والسعودية مستفيداً فقط من بعض أنحاء حدوده مع إيران، ومتعمّداً عدم استعمال حدوده مع الكويت الراضخة للتسلّط السعودي الأميركي.
وفقد العراق بالتالي أهميّته السياسية الخليجية والعربية، وقسماً كبيراً من سلطته الداخلية على مدنه ومحافظاته في هجمات من قوى تكفيرية انطلق معظمها من الحدود التركية وقسم من الحدود السورية، وجزء بسيط من الحدود مع الأردن ومحافظة الأنبار المحاذية للسعودية بواسطة العشائر المزدوجة الولاء.
بعد هذه السنوات العجاف، التي حوّلت دولة العراق إلى مجرّد سلطة داخلية على بعض أنحائه، نجحت قوّاته المسلّحة المدعومة من الحشد الشعبي وأهالي المدن الكبرى من تحرير أهمّ المدن العراقية، مدركاً حدوده مع سورية والأردن وبعض أجزاء الحدود السعودية في الأنبار، معطّلاً النسبة الأكبر للوظيفة الإرهابية للحدود التركية.
وللأمانة، فإنّ قسماً معتدلاً من حدوده مع سورية وتركيا لا يزال تحت سيطرة الإرهاب، إنّما من دون حرية الحركة التي كانت له في المرحلة الماضية. ألا تؤدّي هذه الانتصارات إلى ترجمات سياسية جديدة على ثلاثة مستويات الداخل العراقي، العلاقة مع سورية والجموح السعودي الخليجي في دعم الإرهاب؟ الأمر الذي يرخي بثقله على مجمل السياسة الأميركية في المشرق العربي.
أمّا في سورية، فالهجوم عليها كان أكثر ضراوة، واتّخذ شكل تبادل أدوار بين «إسرائيل» التي وضعت قوىً إرهابيّة على مقربة من الجولان السوري المحتلّ ودعمتها، والأردن الذي شرّع كامل حدوده مع سورية للإرهاب الأمميّ… كما أنّ سيطرة الإرهاب على حدود دمشق مع العراق فتحت الأبواب للشياطين التكفيريين، ولم يتلكّأ كرد البرازاني في تحويل حدود محافظتهم إلى ممرّات للسلاح والإرهاب، لكنّ الثقل الأكبر امتلكته تركيا التي جعلت حدوداً بطول ألف كيلومتر ومناطق مجاورة لها على الجانبين السوري والتركي، أكبر مناطق شهدها التاريخ لتدريب الإرهابيين الأمميّين وتسليحهم وتمويلهم ونقلهم إلى الداخل السوري، بذريعة أخوّة إسلامية أبادت المسلمين والمسيحيين والأيزيديين ولم تستثنِ أحداً، حتى في الداخل الأوروبي والأميركي…
بذلك استطاع هذا الإرهاب المنتمي إلى آلاف التنظيمات التكفيرية تحت راية تركيا والسعودية وقطر والحماية الأميركية السيطرة على ثلثي سورية من حدود فلسطين المحتلّة والجولان المحتل حتى أرياف دمشق، ومن حدود الأردن حتى محافظة درعا ومن الحدود العراقية حتى حدود تركيا في الشمال السوري. ومنحت أميركا حلفاءها الأكراد مناطق في شرق سورية، لا تنفكّ تتمدّد شمالاً وجنوباً في محاولة لبناء رأس جسر استراتيجي بين الطبقة والرقة ودير الزور وقاعدة التنف، بنفوذ أميركي دائم هدفه مجابهة التفوّق السوري الروسي الإيراني.
لكنّ هذا المشهد أصبح من الماضي، استطاع الجيش السوري مدعوماً بحليفَيْه الروسي والإيراني وحزب الله تحرير أكثر من 30 ألف كيلو متر مربّع معطّلاً الدور التركي الراعي للإرهابيين بشكل كامل، مدركاً حدوده مع الأردن والعراق ومتقدّماً إلى حدود مدينة الرقّة هادفاً إلى الإمساك بدير الزور لأهداف تتعلّق بتعطيل الإصرار الأميركي على الإمساك بها وإلحاقها بالنفوذ الكردي تحت شعارات عربيّة عشائريّة زائفة، ومنع استخدام ثرواتها النفطية لخدمة المشروع الإرهابي، مع إعادة أهلها السوريين الطيّبين إلى حضن الدولة.
المشهد الجديد إذاً يرسم بالخط العريض انتصاراً كبيراً للدولتين السوريّة والعراقية، مقابل انكفاء للأدوار التركية «الإسرائيلية» السعودية والقطرية. وهذا له ترجماته على مستوى السياسات الداخلية للدول وعلاقاتها بأزمات الإقليم والجوار. إلا أنّ هناك محاولات أميركية أخيرة لتعطيل العمل بالتوازنات الجديدة في المنطقة، وتتلخّص بمحاولة إعادة تزخير الفتنة السنّية الشيعيّة على شاكلة أن تمارس الحكم في المناطق المحرّرة، قوى سنّية موالية للسعودية وتركيا، مع سعي أميركي دؤوب إلى تعطيل الدور السياسي لانتشار الجيشين العراقي والسوري على حدودهما.
لذلك تجهد واشنطن لدعم نشوء خط اجتماعي طائفي عسكري مدعوم من قوات أميركية يربط بين مدينة الطبقة والحدود العراقية عبر الرقة ودير الزور، إلى جانب خط آخر يربط عمّان الأردنية ببغداد عبر خط اجتماعي طائفي أيضاً يخترق الأنبار ذات العشائر الواحدة بين سورية والأردن والسعودية.
وترى دوائر تابعة للأمن القومي الأميركي أنّ هذين الخطين يجهضان ولادة نفوذ كبير للدولة العراقية التي قد تصبح ذات تأثير ردعيّ على السعودية والأردن. بمعنى أن تمنعهما من مواصلة دعم قوى التكفير والإرهاب في سورية والعراق واليمن أيضاً، ما ينتج اهتزازاً في جموح آل سعود نحو بناء أدوار عربيّة وإقليمية وإسلامية بنشر القراءات الوهابية التكفيرية للإسلام مع بعض مليارات الدولارات المتناثرة فوق مراكز «داعش» و«النصرة» ومئات التنظيمات الأخرى وعشرات القيادات العراقية الطائفية المتساقطة بفعل الصمود السوري والعراقي…
هناك إذاً أوراق أميركية رديفة، لكنّها ليست بقيمة سابقاتها التي استخدمت آلاف الكيلومترات وألغت سيادات الدول وسيطرت على مساحاتها. وتنقسم إلى ثلاث محاولات سياسية، ودبلوماسية وعسكرية. تذهب السياسية إلى تجميع حلف خليجي عربي لاستعداء إيران والاحتراب معها لجذب دور عسكري أميركي كبير، أمّا الدبلوماسية فتتركّز على إصرار أميركي على إيجاد تفاهمات عميقة مع الروس تقوم على إرجاء الحل السياسي في سورية مقابل استيلاد كانتونات آوية للنازحين، وتحمي الإرهابيين في آن معاً.
أمّا المقابل، فيبدو أنّه اتجاه سعودي لعرض صفقات اقتصادية «خيالية» مع روسيا على شاكلة ما نالته واشنطن منها مؤخراً. والزيارة المرتقبة للعاهل السعودي إلى موسكو خلال هذا الشهر، هي محاولة «عبثيّة» لمنع ترجمة الانتصار العسكري للجيشين السوري والعراقي على مستوى الخليج وأزماته…
فهل هذا ممكن؟
لا يمكن إجهاض النتائج السياسية المرتقبة إلا بهزائم جديدة تعيد السيطرة التركية والسعودية والتكفيرية والأردنية والكرد على حدود البلدين، مع تقدّم حلفائهم في الداخل السوري والعراقي!!
إنّ مجمل هذه الأسباب تؤكّد أنّ سياقات جديدة تظهر في المنطقة على وقع تحرير سورية والعراق، باعتبار أنّ هناك استهلاكاً أميركياً لكامل أوراق واشنطن في المنطقة، بمعنى أنّ مرحلة المشروع التكفيري تتّجه إلى انهيار تامّ.. ولم يعد لدى واشنطن إلا الورقة «الإسرائيلية» التي يؤدّي استعمالها إلى حرب إقليمية قابلة للتطوّر إلى حروب تدميرية أكبر… الأمر الذي يؤكّد أنّ هناك أدواراً سياسية «عربيّة» تنتظر سورية والعراق، ولن تكون إلا على أساس تخفيف أزمات المنطقة وتعطيل الأدوار الخارجية. وهذا يصبّ في خانة نجاح مشروع المقاومة المتعاونة مع روسيا في صدّ جزء من المشاريع الأميركية التي تلعب على مسرح المشرق العربي، وبالتالي العالم الإسلامي.