من مرويّات الأمين عبد الله قبرصي
نورد هنا ما جاء في الصفحات 35 ـ 39 من الجزء الرابع من مذكرات الأمين عبد الله قبرصي، لمزيد من التعريف بخفايا المرحلة التي سبقت اغتيال سعاده في الثامن من تمّوز.
«طلب إليّ سعاده مقابلة صديقي القاضي السابق ناظم رعد، الذي كان قد عيّن مديراً للشرطة اللبنانية، وذلك في يوم 9 حزيران 1949 لكي ألفته إلى محاذير اجتماع حزبي دعت إليه الكتائب اللبنانية في مقهى الجميزة. فتوجهت إلى المدير بعد أخذ موعد مسبق، وتقابلنا، فعرضت عليه الخطر من صدام بين الكتائبيين والقوميين الاجتماعيين لمناسبة الحشد الكتائبي الذي سيعقد نهار غد في مقهى الجميزة. هذه الخطورة ناتجة عن مصالحة أجراها رياض الصلح بين حزبيّ الكتائب والنجادة، استعداداً للتحرش بالحزب الذي يقع مركز جريدته الجيل الجديد في مطابع الرفيق ميشال فضول في مواجهة مكان الحشد الكتائبي. وعدني المدير بأن يتخذ الاحتياطات اللازمة حين وقوع أي صدام شريطة الا يصدر عن القوميين أية بادرة استفزاز… ونقلت إلى سعاده ما دار بيننا».
«الغريب أني اطمأننت إلى وعد الاستاذ ناظم رعد لأني كنت أثق به صديقاً وقاضياً نزيهاً، خصوصاً وهو كان عضواً في المحكمة المختلطة التي حاكمتنا في كانون الثاني سنة 1936 وكان حكمها بالفعل حكماً عادلاً ومعقولاً. ولذلك انصرفتُ إلى أعمالي يوم التاسع من حزيران كالمعتاد… ولم أعرف ما جرى في ذلك النهار المشؤوم الا عندما طرق بابي الأمين السابق فوزي المعلوف في العاشرة ليلاً ناقلاً إليّ أمر الزعيم بالتوجه إلى داره فوراً. قلقت لهذا الطلب المفاجئ في تلك الساعة المتأخرة فهرولتُ برفقة الأمين فوزي، رئيس جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت سابقاً وابن العائلة الكريمة التي تأسس الحزب في رعايتها، مع عائلة جرجس سمعان الحداد.
وصلنا إلى دار الزعيم فإذا بها تعجّ بالقوميين وبالسلاح المتوفر. وسعاده في مكتبه، متجهم الوجه، مقطّب الجبين، في أعلى مراتب غضبه، لقد كانت الثورة تصطخب في عينيه قبل فمه. دخلتُ وجلست مع القادة الذين قد وصلوا قبلي.عرفت بالفاجعة تفصيلاً:
كان الزعيم في مكاتب الجيل الجديد، وشاهد بأمّ عينيه حشد الكتائبيين، فقرّر الانصراف لكي لا يكون حضوره مدعاة استفزاز. فنزل مع مرافقه علي عوض وما إن فتح باب سيارته ليهمّ بالدخول حتى ألقى نظرة فاحصة على الجموع المحتشدة. فوقف الناس مشدوهين من تجرؤه على النزول إليهم، ما حرّك أحدهم ساكناً الا بعد أن صعد إلى السيارة وتحركت، إذ قام بعضهم برشقها بالحجارة».
«ولم تمر برهة حتى هاجم المجتمعون المطبعة ومكاتب الجريدة بالرصاص ثم صعوداً إلى داخل المكاتب وأطلقوا النار على من كان فيها فأصيب خمسة من الرفقاء العاملين في الجريدة، محرّرين أو حرساً، بجروح بالغة نقلوا على إثرها إلى مستشفى أوتيل ديو ووضعوا تحت حراسة مشدّدة من قبل الشرطة. لم يستحضر القوميون سلاحاً للدفاع عن أنفسهم عند الاقتضاء… من الرفقاء الجرحى على ما أذكر فيكتور أسعد، وديع الأشقر وفؤاد الشاوي».
«كان الأمين جبران جريج كالعادة إلى جانب الزعيم واقفاً. سُئل بحضورنا أن يشرح ماذا شاهد حول بيت الكتائب، ما يعني أن سعاده كان قد أوفده ليستطلع ما يجري. قال الأمين جريج إن بيت الكتائب، كان مطوقاً بالكتائبيين وقوى الأمن».
«طلب إليّ أن اتوّجه مع الأمينين جبران جريج وابراهيم يموت إلى مخفر الجميزة ومن ثم الحصول على إذن بمقابلة الجرحى وتفقدهم في المستشفى.
كما أمر جبران وابراهيم يموت بالمرور بمكتب الحزب في شارع المعرض لأخذ غرض ما. كانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة والنصف ليلاً. مررنا بشارع المعرض، ثم توجهنا إلى مخفر الجميزة من دون التقيد بقوانين السير ووجهاته لأن الساعة كانت قد تجاوزت الثانية وأصبحت الطرقات خالية خاوية، خاصة وقد ارتعب الناس وحسبوا حساباً لانتقام القوميين!».
«وصلنا إلى المخفر فإذا بالمدعي العام أسعد البدوي… وهو من أنزه ما عرف قصر العدل من القضاة. كان هو ايضاً متجهّم الوجه وفي حالة عصبية ظاهرة. قال لي: ماذا تفعل هنا؟. قلت: أنا قادم للحصول على إذن بتفقد الجرحى في أوتيل ديو، لعلهم محتاجون إلى دم، إلى معونة… وقبل أن يجيبني بلا او نعم، ناداه من بعيد المفوّض عصام حلواني قائلاً: أرى أن نرسل قوة… إلى رأس بيروت. ولما رآني سكت وهرول ليكلّم المدعي العام… قلت في نفسي: القوة هذه ضدنا، لا معنا، اذ لو كانت معنا لاستمر المفوض العام في حديثه العلني والصارخ…!».
«وحانت منّي التفاتة إلى غرفة المفوض العام في المخفر فإذا بيار الجميل، وجوزف شادر، جوزف سعادة وجاك شديد، وكلّهم من أركان الكتائب، موجودون صامتون، كمن ينتظر أمراً جللاً».
«نزلت إلى السيارة لأقول لجبران وابراهيم: هيّا فلنسرع، إن قوة تتوجه إلى رأس بيروت لإلقاء القبض على الزعيم. فانطلقنا بأقصى سرعة ممكنة. وعندما بلغنا شجرة الخروب التي كانت على مدخل بيت الزعيم، مقابل الجهة الجنوبية من مستشفى خالدي اليوم، رأيناه مسلّحاً وحوله بعض الحرس المسلحين… قلت لسعاده: أرجو أن تُخلي هذا المكان، إلى مكان أمين، لأني أتصوّر أنّ قوة من رجال الأمن قادمة لإلقاء القبض عليك…». وشرحت له ما سمعت، فاتجهنا معاً إلى مدخل بيت الدكتور فؤاد غصن، قرب المركز الثقافي البريطاني. هنالك كان قد لحق بنا إدغار عبود وخالد جنبلاط وفؤاد شاوي وكامل أبو كامل والرفيقة معزز روضة».
«بسرعة، استدعى الزعيم فؤاد الشاوي إلى مدخل بناية الدكتور غصن وأعطاه أمراً بحضوري بالتوجه إلى الجميزة والقيام بعمل ما ضد قادة الكتائب في المخفر، طبعاً هذا الأمر بقي أمراً».
«أما أنا، فقد رافقته إلى السيارة حيث كان ينتظره الأمين كامل أبو كامل والرفيقة معزز روضة وخالد جنبلاط وقلت له: لا تنسَ أن ترسل لنا تعليمات. فأجابني: بقدر ما ترسلون لي معلومات بقدر ما أرسل لكم تعليمات… هذه آخر كلمات سمعتها من أنطون سعاده! إنها كلمات الوداع الأخيرة».
«وراحت السيارة تنهب الأرض بسرعة إلى منزل السيدة روضة على الأوزاعي… فلما جاءت الفرقة المكلّفة بإلقاء القبض على الزعيم، لم تجده، فأوقفت من كان موجوداً في الدار. أما أنا والباقون فقد طلب إلينا الزعيم الا ننام في بيوتنا».