رئيس الحزب عبد الله سعاده في حشد 9 تمّوز 1961:
خلال عام 1961، حصلت مهرجانات حزبية عدّة في فترة رئاسة الأمين عبد الله سعاده. كنّا قد أوردنا عن بعضها في فترات سابقة.
أحد هذه المهرجانات، وكنتُ حضرتها مع عشرات الألوف من الرفقاء والمواطنين الأصدقاء، حصلت في ضهور الشوير أمام دار الزعامة. وأذكر أن رئيس الحزب آنذاك توجّه مع عدد من الرفقاء كان من بينهم مرافقه حينذاك الأمين سليمان الصايغ إلى عرزال سعاده، يؤدّي التحية ويجدّد العهد. ثم انطلق على رأس الحشد الهائل سيراً على الأقدام باتجاه ساحة ضهور الشوير، فيما وقفت قوى الأمن عاجزة عن منع توجّه ألوف القوميين الاجتماعيين إلى ساحة بلدة زعيمهم.
في هذا المهرجان ألقى رئيس الحزب الأمين عبد الله سعاده إحدى أهم خطبه في تلك الفترة التي سبقت الثورة الانقلابية.
أذكر أني كنت أتولّى مسؤولية مدير مديرية المصيطبة وقد صعدنا في سيارة باص إلى منطقة زغرين حيث ترجّلنا وتوجّهنا سيراً على الأقدام صعوداً في الأحراج إلى منطقة العرزال ـ دار الزعامة لننضمّ إلى الحشد الهائل الذي كان يتجمّع منذ ساعات الصباح الأولى.
كلمة رئيس الحزب في حشد 9 تموز 1961
«أيها القوميون الاجتماعيون،
يا أبناء الشعب الأعزاء
كم كانت هذه القمة المطلّة تشتاق لرؤية حشودكم الجبارة تتحمّل مشاق المسافات لتؤكد لها أنكم على عهد بطلها، كل نقطة دم من شرايينكم هي وديعة الأمة فيكم متى طلبتها وجدتها. إنّ الحق مهما خبا صوته والحقيقة مهما نامت في الأمة، لا بدّ أن تنتصر وتقوى على القيود مهما قويت تلك القيود. فاصل لما تيقنوا بأن كل لبنان، كل القيم الحية في لبنان، ستزحف اليوم إلى العرزال، رمز الثبات والفداء والخلود، أرادوا أن يشوّهوا هذا اليوم فإذا بكم تنقذون كرامة الأمة ووجهها بتحديكم كل الصعوبات والعراقيل. لو كنا قطيعاً، أو كنا عبيداً لفتحت لنا الطريق وسهلت أمامنا السبل. لم نسمع قط أن أحداً تهيّب أمام سير قطيع أو تيار عبيد».
«ولكن ما يفرض التهيّب هو زحف الأسود الزائرة التي لا ترضى أن يبقى في الأمة الا الأسود الزائرة. إننا دائماً مستعدّون أن نطيع كل حكم منبثق من روح الدستور الضامن للحريات الأساسية، كما أننا دائماً مستعدّون أن نعلن أن القوميين الاجتماعيين يأبون الا أن يحيوا في الحرية أو يموتوا دونها».
«لقد توهّموا خطأً أن سعاده قد مات. غير أنّ سعاده الذي لم يحيَ دقيقة واحدة من حياته لنفسه والذي سخّر كل وجوده وفكره، كل وجدانه وإيمانه لبعث وجدان الأمة وإيمانها، انتصر على الموت فأخرس الرصاص وهزأ بالحديد والنار، وأقام على أشلاء الحديد والنار منارة للحق تهدي وناراً تحرق الباطل ليبيّن عزّ الأمة وكرامتها.
إن العقول المحدودة والنفوس العاجزة لم تستطع أن تتخيل أن الحقيقة تتحدى الموت وتنتصر عليه. إن سعاده، على عظمته وكبره قبل موته، قد أصبح الآن أعظم وأكبر وأخلد فيكم وفي الأمة بعد موته.
هنيئاً لك يا زعيمي موتك هذا، هنيئاً لك يا زعيمي استشهادك هذا. فأنّى لنا نحن المؤمنين برسالتك ونهضتك وحزبك أن يكون لنا شرف الامتداد والبقاء والحياة والتكامل بعد موتنا كما لك هذا الشرف وهذا الخلود».
«اننا نعدك مقسمين بكل قطرة دم نزفت من شرايينك باننا إذ نحب الحياة ونعمل لها، غير أننا نقدم حياتنا متطوّعين في سبيل قيم الحياة الحرة الخالدة. إن الحياة في الحزب السوري القومي الاجتماعي هي للقيم والمضامين التي تشرّف الحياة وتعزّزها، فتنتقل من الوجدان الحيّ لتلهب كل وجدان لما تدبّ بعد فيه هذه القيم وهذه المضامين. كذلك الحرية التي ننشد ليست حرّيتنا كأفراد ولا حرّيتنا كحزب بل حرّية جميع المواطنين وحرّية الأمة وهي هذه الحرّية نذرنا لها وجودنا كأفراد وكحزب. ليس حراً من يحصر الحرّية بنفسه، ليس حراً من لا يرى حرّية الأخرين من حرّيته. فان لم أحمل في نفسي حرّية الانسان في أمتي، وأرهن لها حياتي وحرّيتي فأنا لست حراً في نفسي ولست باراً بأمتي وانسانيتي».
«هذا الايمان بالحرّية الذي انبثق من بطل تموز، هو الذي حملكم عبر الأودية والوهاد، تتحدّون العراقيل والموانع، لتجتمعوا إلى بطل تموز في مقرّه، في يوم انتصار الحرّية باستشهاده لتعِدوه هنا، كما تعدونه كل يوم، بأننا جميعاً آلينا أن ننتصر للحرّية وبها، أو أن نموت دونها. إن هذا التصميم وهذا الايمان هو تصميم الاحرار وايمانهم. وليس للعبيد أن يدركوا ايمان الاحرار. كذب العبد إذ يقول انه يؤمن. لا يؤمن الا الحرّ النبيل. ولا يقبل بأن يطغى على حرية انسان من فيه نسمة من حرية وقليل من ايمان».
«إن الذين يتآمرون على الحرية وحقّنا بالعمل لها أعلنهم بِاسمكم عبيداً. وإنني أعلن بِاسمكم أنتم الحاضرين، وبِاسم عشرات الألوف من الذين حالت الموانع دون وصولهم، بأنه لا تنتصر في النهاية الا القوة الحقيقية النابعة من الوجدان والنابعة من الايمان التي هي قوتكم انتم يا خميرة الايمان والوجدان والحرية في الأمة».
«بالامس نشرت الرجعة الفتنة في لبنان، وانقسمت الرجعة على نفسها تتسابق إلى المغانم والتحكم، فوقفتم انتم في الصفوف الأولى مع المخلصين من الشعب حرس القيم والرسالة في لبنان وحرس النهضة، تجسّدون مفهوم الحرية والعدالة والعلمانية والحياة. فما ان تنبهت الرجعة المتقاتلة إلى إن وجودكم هو الوجود الفاعل وأن قوتكم هي القوة المنتصرة، حتى تعانقت الرجعة تعانق المحبين بعد طول فراق، مدركة أن الرجعة لا تستطيع أن تتعايش الا مع الرجعة، وانها اذا انقسمت ساعدت على انهاء نفسها بانتصار الحق الذي فيكم، فاستجمعت ما تبقى من قواها لتخوض معكم معركة المصير التي لن ينتصر فيها الا الحقيقة النامية والارادة الفتية والنهضة الشاملة التي هي حقيقتكم وإرادتكم ونهضتكم. وأن هذا المهرجان الجبار، لولا الموانع التي حالت دون وصول الحشود الزاحفة اليه، كان يكشف بوضوح انكم انتم القوة الحقيقية الشعبية الكبرى في لبنان. ليس قوياً من يستمد قوته من الخارج. ليس قوياً من يستمد قوته من الحديد. ليس قوياً من تقوم قوته على تحريك غرائز الرجعة المتداعية. القوي والجبار المارد، هو العقل والايمان الذي تجسد فيكم إرادة حرة تستمد قوتها من ذاتها، من حقيقة الشعب، تهزأ بالحديد وتقضي على الرجعة المتداعية. القوي القوي والجبار المارد، هو العقل والايمان الذي تجسد فيكم إرادة حرة تستمد قوتها من ذاتها، من حقيقة الشعب، تهزأ بالحديد وتقضي على الرجعة وعلى الاستعمار بجميع أشكاله وقواعده!
اننا مؤمنون بأنفسنا، فإن أنكرتنا أثداء أمهاتنا وضمائر زوجاتنا وعرق آبائنا ووفاء أبنائنا، فلن يتنكر لنا لبنان».
«قال سعاده: ليس لبنان الحكومة وليست الحكومة لبنان. إن مبدأ الحكومة ـ الدولة قد قضى مع لويس الرابع عشر ويرقد إلى جانبه بسلام. إن لبنان هو الشعب الذي هو المرجع الأخير والحكم الفاصل في انتصار كل قضية أو خذلانها. لذلك فاننا نتوجه دائماً اليه ونعمل معه. أما قوى الأمن فان لها منا كل احترام وتقدير، لأنها، في الأخير مسؤولة عن الدفاع عن لبنان ومصالح شعب لبنان وحياته، ونحن الذين كنا في الصف الاول معها ندافع عن لبنان. بالأمس القريب ستجدنا إلى جانبها ونجدها إلى جانبنا في كل ملمّة يتعرّض فيها لبنان للخطر. خسئ الذين يسعون لأن يجرّونا إلى معركة ليس للبنان فيها مصلحة، غير أننا إذا دعا الداعي وقضت مصلحة لبنان الحقيقية، فإننا نخوض معركته الحقيقية فإمّا نصر مبين وإما موت يكون موت تمّوز مثالاً له، فإذا بآلافنا وعشراتها تنبت عشرات ومئات الآلاف.
عاش لبنان، قلعة النهضات والحرّيات والرسالات. ولتحي سورية وليحي سعاده.