خليل حاوي والثّامن من تمّوز
د. لؤي زيتوني
ابن بلدة الشّوير خليل حاوي، ولد في إحدى قرى جبل العرب، وقد انتمى إلى صفوف الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ عام 1934، وتولّى فيه مسؤوليّات، منها مسؤوليّة مدير مديريّة الشّوير بين عامي1938 و1940 وفي هذا يؤكّد الأمين جبران جريج أنّ خليل حاوي كان مسؤولاً عن الحرس الذي حافظ على تجمّعٍ حزبيٍّ جرى في ساحة الشّوير1. وقد اشترك في تأسيس تجمّع «شعر» ونشر في العدد الأوّل من مجلّته لكنّه عاد وانفصل عنه بعد فترةٍ قصيرةٍ ولأسبابٍ خاصّةٍ. وله عددٌ من المؤلّفات الغنيّة عن التّعريف وأبرزها: «نهر الرّماد».
على أنّ انتماء حاوي إلى الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعي لم يُثر في الدراسات التي تناولته في حياته، وذلك لأنّه لم يُشِر صراحةً إلى هذا الانتماء في مؤلّفاته، مع أنّ البعض يؤكّد إعلانه التمسك بالقوميّة الاجتماعية في لقاءاتٍ خاصّةٍ، وأنّه لم يزح عن خطّ الزّعيم قيد أنملة. غير أنّه ذكر ذلك في حاشيةٍ قصيرةٍ من أطروحته عن جبران خليل جبران، عندما تكلّم عن اجتماع «الحلقة الذّهبيّة» التي أسّسها جبران فيقرّر هذا الانتماء إذ يقول: «يقرّر الكاتب وهو عضوٌ سابقٌ في الحزب المذكور أنّ سعاده لم يعرف انتماء جبران في القوميّة السوريّة، ولكنّه امتدحه لثورته على الكنيسة والإقطاع»2. كما أشار إلى هذا الانتماء في حديثٍ إلى تلميذه ساسين عسّاف في صيف1974 أورده في أطروحته بالإسبانيّة عن حاوي، ولم يظهر بالعربيّة إلاّ بعد وفاة الشّاعر3.
إلاّ أنّه يمكننا الذّهاب إلى أبعد من ذلك في موضوع تأثّر حاوي بالصّراع الفكريّ. فتأثره بسعاده يظهر من خلال تبنّيه لبعض مقولات «الصراع الفكري»، إذ يشجب مثلاً الأخذ بأساطير غريبة عن شخصية الأمة وعن مصيرها لأنّ ذلك يعدّه تخلّياً عن الانتماء وخدمة لأعداء الأمة، «كما فعل سعيد عقل في بنت يفتاح حيث نجد يفتاح اليهودي بطلاً أسطورياً» 4 . وهذا الأمر يؤكده المتخصّصون في دراسة خليل حاوي، إذ يروون: «بيد أنّ الشاعر كثّف نشاطه النقدي في السبعينات من خلال مقابلات معه أو دراسات أعدها فحمّلها آراء جريئة استمدّ معظمها من مؤلَّف سعاده «الصراع الفكري» وصهرها رؤية فلسفية متميّزة تأخذ باتجاهات المذهب «الكانطي» النقدي دون أن تغيب عنها خلفية الحزب القومي» 5 .
لقد كانت طروحاته النّقديّة نابعةً في أغلبها من الإشكاليّات التي طرحها الكتاب. ففي حديثٍ مع السيّد جهاد فاضل، أورده الدّكتور محمود شريح يقول حاوي: «لقد تنبّهتُ في وقتٍ مبكرٍ من حياتي إلى الضّعف الذي كان يشيع وينتشر في المجالات المختلفة لما يُدعى عادةً بأدب النّهضة الحديثة. وحين حاولتُ إدراك قيمة تلك النّهضة بمعيار الأصالة الذّاتيّة، أدركتُ إدراكاً يقينياً أنّها حركةٌ أصابها هيامٌ وضياعٌ بين القديم المتحجّر والغريب المجلوب»، ويُضيف حاوي أنّ النّهضة «أخفقت في صهر ما أفادته من هذين المصدرين، فكان محتوماً عليها الإخفاق في مجال الخلق، لأنّ الصّهر الثّقافي الحضاري هو الخطوة الأولى في مجال الخلق الأصيل»6، إنّ هذا الكلام سرعان ما يحيلنا إلى ما نجده في الفصل الأوّل من الصّراع الفكريّ بشكلٍ خاص إذ تطرق فيه الزّعيم إلى التخبط الفكري والتفسّخ الروحي اللّذَين كان يعاني منهما الأدب في عصره الذي كان ولا يزال يُعرف بعصر النّهضة الأدبيّة العربيّة.
ولكنّ خليل حاوي لم يكتفِ بهذا الإدراك للواقع الأدبيّ، فقد سعى بجدٍّ إلى النّهوض بالأدب وجعله جديداً وعالميّاً، لذلك ابتعد أكثر ما يكون عن فرديّته ليصل إلى الغاية القوميّة الاجتماعيّة في أدبه، حيث يعبّر في حديثٍ لمجلّة الفكر المعاصر في عددها الصّادر في أيّارـ حزيران1975 ما يلي: «لم يكن غرضي من الشّعر تحقيق الإبداع الشّخصيّ بقدر ما كان إحداث نهضة عامّة». وأضاف أنّه «من البداهة أن يكون الانبعاث صهراً للتّراث يمهّد لتفجيرٍ تلقائيٍّ بالجديد الأصيل غير المرتقَب. وأحرى أن يعبّرا تعبيراً واحداً عمّا اختزنت الأمّة من طاقةٍ حيويّةٍ عبر هجوعٍ تاريخيٍّ طويل»7.
في الواقع، إنّ هذا الكلام لا يشكّل إلاّ التزاماً تامّاً من حاوي بما أراده المعلّم الذي وعى الواقع المُزري للأدب في أمّته، فحاول أن يُخرج أدباً متميّزاً ينطلق من نظرةٍ جديدةٍ إلى الحياة والكون والفنّ ويرتقي بالأمّة إلى مستوى تلك النّظرة وهي النّظرة القوميّة الاجتماعيّة التي وضعها حيث تكون هذه النّظرة مبنيّةً على الأصول القوميّة المتقدّمة. ولذلك كان كلام الأستاذ حليم جرداق في الإطار نفسه مؤكّداً لما وصلنا إليه، حيث يقول: «إنّ تجربة خليل في الحركة القوميّة وسمت شخصيّته في أعماقها وكان لها الأثر الفعّال في يقظته الفكريّة والشّعوريّة والإراديّة وفي نظرته إلى الحياة والإنسان والفنّ»8، فنظرة سعاده الجّديدة التي شدّد عليها في «الصّراع الفكريّ»، انطلق منها حاوي في تجديده للشّعر العربيّ، لأنّ موضوع ما يسمّى بالرّؤيا لدور الفعل الشّعريّ «أو الخطوط الأساسيّة فيها تتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع رأي أنطون سعاده في ما يسمّيه بأدب الحياة»9.
إنّ خليل حاوي مع كونه انفصل عن الحزب السّوري القوميّ الاجتماعيّ تنظيمياً، إلا أنه على ما يبدو، ظلّ يحمل وفاءً كبيراً لسعاده وحرصاً عظيماً على التّمسّك بفكره واستلهاماً متواصلاً بوقفة العز المتجسّدة في استشهاده. فقد أراد حاوي أن يركّز على قدرة الذّات المجتمعيّة في «أن تعبّر عن نفسها بنظرةٍ إلى الوجود والحياة واحدة، وحدة الذّات التي صدرت عنها، متفرّعةً، تفرّع قواها ونشاطها، أصيلةً أصالة الذّات التي لم تخضع لتقليدٍ أو تزييف»10، على حدّ قول خليل نفسه، وفي هذا السّياق يعدّ الدّكتور شريح أنّ «هذه النّظرة في عرف حاوي ردّ اعتبارٍ لمقولة سعاده في الاتحاد في الحياة »11.
وانطلاقاً من هذه النّظرة إلى الحياة والكون والفنّ، نرى أنّ التزام خليل حاوي بالعودة إلى الأساطير السّوريّة على الأخصّ في عددٍ كبيرٍ جدّاً من نتاجاته، هو وحده الكافي لتوضيح الأثر البارز لكتاب «الصّراع الفكريّ في الأدب السّوريّ» فيه. فهو يُعدّ أهمّ الشّعراء الحديثين وأكثرهم التزاماً بقضيّة انبعاث الأمّة من خلال افتدائها عبر أسطورة تمّوز واستبدالاتها المتعدّدة بشكلٍ مباشرٍ كما في قصيدة «بعد الجّليد» مثلاً، أو غير مباشرٍ كما في قصيدة «الجّسر». الأمر الذي حدا بالدكتور محمود شريح إلى القول إنّ حاوي «تمكّن من توحيد الآنيّ بالأزليّ، بالثّقافة الجّماعيّة للأمّة، فردّ على سعاده مكانته اللاّئقة في فهمه الدّقيق لمسألة الأسطورة في القصيدة، وحوّل سيرته كلّها إلى رمزٍ أسطوريٍّ»12، إذاً فهو لم يكتفِ بالعودة إلى تمّوز ليعبّر عن بعث الأمّة، إنّما جعل من حياة سعاده، ولا سيّما لحظة تقديم نفسه تضحيةً من أجل نهضته، رمزاً أسطورياً قائماً بذاته لأنّه يشكّل تجسيداً واقعياً لعمليّة الانبعاث التّمّوزيّ بافتداء البطل القوميّ الذي أدرك دوره الرّساليّ، نفسه حتّى ينبعث جماعةً تنتصر لأمّته.
وعلاوةً على ذلك، يرى حاوي أنّه ليست أيّة أسطورةٍ قابلةً للتّناول، فلا بدّ من النّظر في هذا المجال إلى تراثنا فنأخذ منه الرّمز الشّعبي الرّاسخ في ضمير الأمّة سواء أكان أسطوريّاً أم تاريخياً، فيوفّر للشعر القدرة على إيصال غايته بما يمثله الرّمز من تكثيفٍ للأحداث. وذلك ما يجعل الشّاعر «يفترق افتراقاً حاسماً عمّا سبقه من تجارب شعريّةٍ حاول أصحابها أن يفيدوا من الأساطير» فوقع بعضهم في فخّ الاستعانة بالأساطير الغريبة عن الأمّة، «فجاء شعرهم تعبيراً عن طبيعة أمّتهم كما فعل سعيد عقل في بنت يفتاح حيث نجد يفتاح اليهوديّ بطلاً أسطورياً»13.
إنّ كلام حاوي هذا الوارد في حديثه لمجلّة الفكر المعاصر، يرسّخ في أذهاننا مسألة تأثّره بـ«الصّراع الفكريّ» لأنّ الإشارة إلى مطوّلة «بنت يفتاح» لسعيد عقل كما سبق ورأينا لا ترد إلاّ في هذا الكتاب حيث ينتقد سعاده الشّاعر عقل على أخذه من تراثٍ غريبٍ عنّا بل ومعادٍ لنا وفي انتصاره انكسارٌ لحقيقتنا وتراثنا ومن هنا كان استنتاج الدّكتور شريح أنّ «ما حدّده سعاده عقيدةً صاغه حاوي فكراً»14. كما أنّ شعره يؤكّد حضور طروحات سعاده ووقفة الثّامن من تمّوز فيه.
إنّ شعر حاوي يوضح لنا ما ذهبنا إليه، فنراه يقول في ديوان «نهر الرماد»:
«إن يكن ربّاه،
لا يحيي عروق الميّتينا
غير نارٍ تلد العنقاء ، نار
تتغذى من رماد الموت فينا،
في القرارْ،
فلنعانِ من جحيم النّار
ما يمنحنا البعث اليقينا:
أمماً تنفض عنها عفن التّاريخ،
واللعنة، والغيب الحزينا
تنفض الأمس الذي حجّر
عينيها يواقيتاً بلا ضوءٍ ونارْ،
وبحيراتٍ من الملح البوار،
تنفض الأمس الحزينا
والمهينا.»15.
إنّ حاوي يُبرز في هذه القصيدة نفسه قوميّاً اجتماعيّاً مستوعباً لطروحات «الصّراع الفكريّ» ومستجيباً لدعوة زعيمه في العودة إلى أساطير الأمّة حيث نجد الرّمز الأسطوريّ الانبعاثيّ «العنقاء» يُوظّف لخلق جوّ النّهضة المقترن بالقيامة التموزية من بين الرّماد وعفن التاريخ… ويلفتنا هنا رمز النّار إذ يرى الأستاذ محمد جمال باروت أنّه رمز تناصّيٌّ، بمعنى أنّه يُرجعنا إلى مخزونٍ من الرموز التي يقوم باستيعابها وإعادة تكوينها من جديد، فيقول باروت: «رمز النّار الدّيناميكيّ المعقّد والمتعدّد الطّباق الدّلاليّة، يتعيّن على مستوى الإرجاع إلى التّجربة الشّخصيّة للشّاعر ولكن بوصفه نبيّاً جماعيّاً أو رائياً يتكلّم بلغة الرّمز الأصليّة، وهذا التّعيين يجد نفسه بصورةٍ معقّدةٍ في تجربة الزّوبعة التي رمزت إلى حركة الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ، الذي انخرط فيه… فالصّورة الملكارتيّة للنّار هي الصّورة الحدسيّة العليا لـ الزّوبعة بمعناها العميق الانقلابيّ. فتكون الزّوبعة بإثارتها الرّوحيّة والإراديّة في ذات المكافحين بحدّ ذاتها أحد الرّموز الضمنية التي يحيل إليها رمز النّار في شعر حاوي، وهو ما يُكسب رمز النّار ثراءه الدّلاليّ الخصب والمفتوح»16، فواضحٌ من هذا الكلام حضور القوميّة الاجتماعيّة ونظرتها للأدب في نتاج حاوي.
وتبدو في مكانٍ آخر من قصيدته هذه استجابته لدعوة سعادة الاستعانة بالأسطورة وخاصّةً رموز الانبعاث كالبعل وتمّوز، ومنها الايحاء إلى الاستجابة لنهضة سعادة التي ضحّى في سبيلها، فحاوي يقول:
«كيف ظلّت شهوة الأرض
تدوّي تحت أطباق الجّليد
شهوةً للشّمس، للغيث المغنّي
للبذار الحيّ، للغلّة في قبوٍ ودنِّ
للإله البعل، تمّوز الحصيد»17.
ونراه في مكانٍ آخر معبّراً بشكلٍ جليٍّ عن قيم النّهضة القوميّة الاجتماعيّة الصّادرة عن نظرةٍ فلسفيّةٍ جديدةٍ تريد رفع الأمّة إلى مستواها من قاع الجّليد والتّفسّخ والمستنقعيّة بجيلٍ جديدٍ حيٍّ، أفراده:
«يعبرون الجّسر في الصّبح خفافاً
أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيدْ
من كهوف الشّرق من مستنقع الشّرق
إلى الشّرق الجّديد
أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيدْ»18.
ففي القصيدة يعبّر حاوي عن طموح سعاده بقيام نسلٍ جديدٍ هو النّسل القوميّ الاجتماعيّ الذي شكّل سعاده نفسه الجّسر لعبوره نحو النّور، نحو الشّرق الجديد المتوحّد ضمن حدوده الطبيعية والمستقل، أي سورية الطبيعية، ونلاحظ الفعل الفدائي لسعاده من خلال التّضحية التي يقوم بها المتكلّم والتي بدت من خلال امتداد الضّلوع من أجل عبور الجيل الجديد.
لذلك نرى أنّ خليل حاوي كان ملتزماً إلى أبعد الحدود بالمنطق الصّراعيّ المستنبط من النهج الفلسفي لـ«للصّراع الفكريّ في الأدب السّوريّ «، ولم يزح عن التزامه هذا أبداً.
ولا بدّ من الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ حاوي نفسه لا يترك مجالاً للشك في انتمائه القومي الاجتماعي حتى بعد أن ترك الحزب تنظيمياً، فهو يدلي بتصريح واضح في بداءة السبعينات إلى تلميذه ربيعة أبي فاضل قائلاً: «لم يأتِ في تاريخنا قائد له قامة وحضور مثل أنطون سعاده، لقد حاربوه، وسيحاربون أتباعه. لكنّ أبناء الحياة لا يهابون» 19 . وهذا ما يمنع الشكّ في قوة الأثر العميق هذا لسعاده في «شاعر الانبعاث الأول»، خليل حاوي.
Endnotes
1 – محمود شريح: خليل حاوي وأنطون سعادة. دار نلسن ، بيروت ، الطّبعة الأولى ، 1995 ، ص89-88.
2 – المرجع نفسه، ص 167.
3 – المرجع نفسه، ص168-167.
4 – المرجع نفسه، ص59.
5 – المرجع نفسه، ص168.
6 – المرجع نفسه، ص61.
7 – راجعالمرجع نفسه، ص60-59.
8 – المرجع نفسه، ص37.
9 – المرجع نفسه، ص44.
10 – خليل حاوي: العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد. بيروت، دار نلسن، الطّبعة الأولى، 2015، ص26.
11 – محمود : خليل حاوي وأنطون سعادة.ص69.
12 – المرجع نفسه، ص44.
13 – المرجع نفسه، ص59-58.
14 – المرجع نفسه، ص67.
15 – خليل حاوي : الدّيوان. دار العودة ، بيروت ، الطّبعة الأولى ، 1993 ، ص121.
16 – محمد جمال باروت :» خليل حاوي الرّائي الذي افترست رؤياه عينيه «. دراسات نقديّة ، تحرير وتقديم فخري صالح. المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر ، بيروت ، الطّبعة الأولى ، 1996 ، ص89.
17 – خليل حاوي : الدّيوان. ص120.
18 – المرجع نفسه، ص163.
19 – ربيعة أبي فاضل: أثر انطوان سعادة في أدباء عصره. بيروت، دار الرّكن، الطّبعة الأولى، 2002، ص369.