شهداء الثورة الانقلابية في ذكراهم الثامنة والستين.. حكاية أبطال وأسماء مذيّلة بالشهادة
اعتدال صادق شومان
ثمانية وستون عاماً مرت على واقعة الثورة والاستشهاد. وخمسة وثمانون عاماً وفي أمجاد ذاكرة الحزب السوري القومي الاجتماعي وتاريخه أسماء تنافس العز في مكانتها وفي عشقها للشهادة .
خمسة وثمانون عاماً على التأسيس وثمانية وستون عاماً على الغيث الأحمرالعارج نحو السماء الذي لم ينضب له معين، بل الموت في سبيل قضية. عندهم عادة وسجية، لا يقبلون ذلاً أو مهانة.
خمسة وثمانون عاماً على التأسيس وثمانية وستون عاماً وما بينهما من مسار ومسير.
فالحزب لمّا يزل في حَوْمةُ القِتال والصراع وساحاته أينما تهتف بأبنائه ريح العلا يلبون الهتاف، والفخار، يحوطهم غضب الثورة وحلمها.. هم المولودون من رحم الوطن وعمق السماء، يرسمون الحلم وطوفانه ويحاصرونه بأقصاه المستحيل.
إنهم شهداؤنا راياتنا ومآثرنا.. مجد الأمة ودرة الحزب.. ملح الأرض وملامح الوطن وثأره ويقينه الساطع.. حراس العقيدة، يوم كان الحزب كانوا قوافل تثرى من جيل إلى جيل من أجل أمر خطير. وحدهم الحقيقة التي لا مراء فيها، مدد للبطولة لا ينضب، مجسدين حقيقة انتمائهم وقيمهم الصراعية في مواجهة أعداء الأمة والقضية والتصدي للقهر والباطل بالشهادة في ركب الفادين لمجد القضية المشبوبة بجوارحِ قامات سمر كنهر الحكايا وحقول القمح، من ذاك العرين هم.. عرين الثامن من تموز بوهجه المنتصر.
أن نستعيد ذكرى المعلم الشهيد في الثامن من تموز والدم السخين يسيل من نعش صنع على عَجَل، لا بد أن تحفّ وتحوم الذاكرة إلى جنان شهداء الثورة القومية يسطِّرون حكاية الغسل الأخير، وسلام الذكرى يوم تعانقت العيون في النظرة الأخيرة قبيل لقاء في موكب نعوش سمقت معاريج الخلود، لترتقي وتشمخ، فتخضّبت بهم الأرض واستُنِطق حجر، وشمس تألقت بغار البطولة. هم شهداء في النجيع الأحمر خالدون: ترادفت اسماؤهم بأسماء القرى التي شهدت لهم ومعهم ومن تلك الساحات تتبدى في البال آخيلة ووقفات عز حضرت ان هم حضروا في «سرحمول» و«مشغرة» و«راشيا»، «بيصور» و«برج البراجنة» قبل أن يلعلع على رمل بيروت أزيز الرصاص المتوثّب على مفارق الجباه العنيدة، يصرح ويصرح ولا ترتد له يد ولا يرتجف له عرق. عساف كرم أول المبا ركين ويتردد صدى الدم مع أديب الجدع، ومحمد الشلبي.. ومعروف موفق، عبد الحفيظ علامة وعباس حماد ومحمد كساب الزعبي يسبقهم محمد ملاعب… أرادوها ثورة تشبههم بقيمهم المثلى ومطالبهم العليا لا تقيّدهم حدود مصطنعة لا يقفون عند سورها الكبير حبوساً للأمة ولا يقرّون بالحزبيات الدينية ويلاً جلب على أمتهم.
شهداؤنا بالأمس وشهداؤنا اليوم وشهداؤنا غداً! لا ننسى يومهم ولا جراحهم ولا دفق أناشيدهم، ما خمدت لهم نار، ولم تغب فصاحة الدم أبداً! الذين قُتلوا خلال الصراع بيد غادر لئيم أو برصاص بغي خلف الظلام وعتمة الأسوار، أم أنهم سقطوا مخضّبين بدمائهم في ميادين المعارك الفاصلة، فإنّ دماءهم هي هي صخب هدّار.. قوافلهم في خضَمِّ المجد مواكب مواكب، بخطى متراصّة جلية واضحة لا يرهبهم أو يثنيهم موت عن مرادهم، ردّ التراب السليب مبتغاهم، والانتصار للحقّ وتبديد أعداء الوطن من السارقين، الغاصبين، الغادرين… تخطّوا النطاق بقتمه الداهم والليل العبوس المكفهر فأسمعوا العالم ترانيم الحقّ المصون بالدماء ليأتي الردّ على دمائهم سريعاً «بالقضاء على الخيانة أينما وجدت».
نعم.. ثمانية وستون عاماً و«الثورة» ما هرمت أو شاخت، تتجدد ما تجدد الظلم، بما هي فعل دؤوب وقضية برّ وتفان، وهي قبل هذا وذاك، مناضلون أحرار، بوجه الظلم والعدوان والاستلاب وشهادة دون مُنّة.
قد تمر على الأمم والأوطان، كما الأحزاب، ظروف تدفعها إلى صراعات وحروب مسلحة غير متكافئة ينتصر فيها الأقوى أو هكذا يُوحى، وجوهر معنى هذا الصراع «الأممي» الدائر اليوم لم تتغير معانيه ولا مفاهيمه حتى يومنا، على اختلاف أقنعتها وحوافزها.. هكذا حصل على «ربى ميسلون» يوم أعطى يوسف العظمة المثال الفاصل برفضه الذلّ والهوان والانصياع لأوامر الغُزاة وإنذاراتهم وشروطهم وإملاءاتهم واختياره الشهادة التي آثَرَ، بوعي وتصميم وإرادة، بديلاً من حياة الذلّ في حِمى المستعمرين.. اختار الموتَ المشرف ليعطي للشهادة قداستها وللتضحية معناها «ولكن كي لا يسجل التاريخ أنّ المستعمرين دخلوا دمشق دون قتال»، وهكذا حصل في الرابع من تموز، سعاده يخاطب رجال الثورة: «أنتم أصغر جيش في العالم يقاتل من أجل تغيير مجرى التاريخ. تخوضون ثورة على الاضطهاد والإرهاب والطغيان المسلح النادر المثيل على الشعب»، رافقت حملة التنكيل بالقوميين الاجتماعيين إثر افتعال حادثة الجميزة المدبّرة كذريعة للاعتداء الصريح على الحزب وحقوق أعضائه المدنية والسياسية، من قبل رجال متسلطين على «الشعب اللبناني» بطرق الإرهاب والتزوير في الانتخابات والتنكيل بالقوى السياسية الفتية الناهضة بمبادئ الحياة الاجتماعية الجديدة. قد داسو إرادة الشعب الحر، ووقفوا حجر عثرة في سبيل حريته، وعبثوا بسلامة الأفراد والعائلات، وعرّضوا حياة الأبرياء الآمنين للخطر وعائلاتهم للترويع وقصدوا إذلال النفوس بواسطة الوعيد والتنكيل» حيث وصل عدد الموقوفين والمعتقليين منذ 9 حزيران تاريخ إفتعال حداثة الجميزة وصولاً إلى الرابع من تموز إلى 900 شخص من أعضاء الحزب وأصدقائه و»كلّ من لف لفه» ولو من باب الشبهة! بمن فيهم الرفقاء الاثنا عشر الذين شملهم الحكم بالإعدام، دون أن يفوت «العهد» تلفيق الأكاذيب وتدبير التهم المضللة كالادّعاء بأنّ الحزب يحضر لانقلاب إسقاط النظام أو محاولة المسّ بشرف الغاية التي يحملها الحزب عبر وصمه بتهمة التعاون مع «إسرائيل» ما أفصح القحباء عندما تحاضر بالعفة التي ثبت بطلانها.
وكانت حملة الاعتقالات بوشرت من مكاتب صحيفة الحزب «الجيل الجديد» في مطبعة ميشال فضول في الجميزة التي أوقف فيها محرّرو وعمال جريدة «الجيل الجديد» وهم الرفقاء : فكتور أسعد، حنا لطوف، محمد جميل يونس، جوزيف يعقوب الطويل، محي الدين خليل ديه، كميل الياس جدع، جورج الياس ربيز، منير عبد المجيد التنّير، فاروق نجيب نصار، ابراهيم ناصر، مصطفى محمد عزالدين، لبيب حكمت زخريا، عثمان أحمد كناش، علي قندولي، جورج نقولا عطيه، نواف أبي فخر، نديم جابر، معوض النوس، سهيل مصباح قليلات، ورامز حسن جابر، وصدرت بحقهم الأحكام بالسجن بتاريخ 2 آب1949. أما الرفيق محمد جميل يونس، فإلى جانب الحكم عليه بالسجن أربعة سنوات أضيف إليه حكم بالطرد من الأراضي اللبنانية كونه من أصل فلسطيني وكانت مسؤوليته الحزبية مفوض جزين ومنفذ عام عكا كما عرّف عن نفسه للمحقق العسكري. قضيته أنه متّهم بالتعامل مع اليهود وقد فنّد الوثائق المزورة للمحقق وقد كان محلّ إعجاب المستنطق لطلاقة لسانه ولغته الفصيحة وحجته العالية حتى أنه قال له «أريد أن استرسل بالتحقيق معك لأنّ الحديث معك متعة أدبية».
الثورة القومية ومفاعيلها الجائرة
وتتسارع الأحدات التي لم تعد خافية تفاصيلها على أحد ومن أجلها أعلن سعاده الثورة في الرابع من تموز وقد عين عساف كرم قائداً للفرق العسكرية القومية بعد أن رقّاه إلى رتبة «صدر» وإلى جانبه «أركان حربه» المتشكلة من: زيد حسن الأطرش، عجاج المهتار، جورج عبد المسيح، نواف حردان، وعبدالله محسن. وكانت خطة كرم تنطلق من راشيا إلى حاصبيا ومشغرة، ثم الانتقال إلى الشوف والمتن الجنوبي إلى جانب مجموعات تنطلق من البقاع بانتظار تحرك قوميي صافيتا وطرطوس إلى عكار.. على كلّ حال مهما يكن من تفاصيل الخطة التي قيل وكتب فيها الكثير!! موضوعنا اليوم هو اقتصاص الدولة المتعاظم والمسرف بالقسوة بحقّ القوميين الذي تعدّى المنطق إلى حقد عاتٍ بحقّ أنطون سعاده وحزبه وعلى ثورة قُيّد لها عدم النجاح.
وسارعت الدولة اللبنانية إلى الاعتقال الاعتباطي بحقّ القوميين بخلاف اللذين كانت قد اعتقلتهم في 9 حزيران وقد تجاوز عددهم المئات، ووصل عدد القوميين الذين تمّ اعتقالهم إلى 900 موقوف جلهم لم يشاركوا في الثورة، أو أنهم كانوا على علم وخبر بها وهذا ما كانت تدركه الدولة ولكنها استغنمتها فرصة لتدمير الحزب والقضاء عليه، كما ظنت، أو خيل إليها!!
الأجواء التي واكبت التحامل على القوميين والتي لم تنتهِ بفشل الثورة وانتهائها ومقتل قائدها العسكري عساف كرم ، ثم الخيانة التى تعرض لها سعاده والمؤامرة التي دُبرت له وأدت إلى مسرحية المحاكمة التي وصفت بالمهزلة ثم استشهاده، في تدبير لا مثيل له حتى في القرون الوسطى ولا تنصّ عليه أية قوانيين مها أيعنت في الظلم تجيز محاكمة رجل والحكم عليه بالإعدام وتنفيذ الحكم بمثل هذه السرعة العجيبة. غير أنّ الدولة اللبنانية ورموز زبانتها لم تكتفِ بإعدام مؤسس الحزب بل استمرت في التنكيل بأعضاء حزبه ومحاصرتهم وسوقهم إلى السجون ومحاربتهم في أعمالهم ووظائفهم الحكومية التي تمّ طردهم منها، علماً أنه طرحت تساؤلات على الدولة آنذاك بخصوص محاكمة وطرد القوميين من سلك «الدرك». تساءل الناس على ما أفردته جريدة «النهار»: لماذا يحاكَم هؤلاء بتهمة الانتماء إلى الحزب وقد انتمى إليه أكثرهم قبل انخراطهم في السلك، وفي وقت كان الحزب السوري القومي الاجتماعي مرخصاً له بالعمل وكانت الحكومة تتعامل معه؟ ويصرح «بعض العارفين» أنّ الحكومة وجَّهت في وقت ما بواسطة ممثليها في المحافظات رسائل إلى المسؤولين المحليين في الحزب تطلب إليهم تشجيع أعضاء الحزب على دخول سلك الجندية، وذلك عندما بدأت حوادث فلسطين، ويضيف هذا البعض أنّ الحكومة هي والحالة ما ذكرنا المسؤولة أولاً وآخراً عن انتظام القوميين في سلك الجندية. وقد أصدرت المحكمة العسكرية حكماً وجاهياً مُبرماً بحق الرفقاء العسكريين بتهمة الانتماء إلى الحزب الذين كانوا قد أوقفوا في منتصف شهر حزيران وقد جرت محاكمتهم بشكل سري، وهم الرقيب الأول عارف هرموش، والرقيب ديب شاهين، والرقيب سجيع عيد، والعريف عادل حسن، مع مصادرة أسلحتهم والآلات وحرمان الرقيبين عيد وشاهين من حمل السلاح مدة خمس عشرة سنة.
أما الرفقاء في سلك الدرك الذين خضعوا للمحاكمة فهم: شامل نوفل، ناصرالدين القماطي، نعمة الله نعمة، محمد صلبي، مصطفى الجوهري، سعيد العريضي، محمد حلاوي، نسيب نصار، رمضان غلاييني، حسن ملاعب، نجيب صلاح الدين، أسعد غزالة، بهجت فخرالدين، سليم الأعور، جميل ذبيان، عبدالله الشيخ، عبد الرحمن يوسف ضاهر،علي أمين حمزة، حسين حمد صقر، وحسن نصار.
وفي لمحة سريعة على التفاصيل والأجواء العامة التي سادت تلك المرحلة والحالات العدائية التي أحيط بها الحزب من قبل مناوئيه الذين جنّدوا الصحف لترويع القوميين، خاصة صحيفة «البشير» و»لسان الحال» وجريدة «العمل» التي التاع قلبها على «الجنوبيين المُغرّر بهم» وإن تبينت لها متانة عقيدتهم القومية فتتنكر فوراً لهؤلاء»الضيوف الذين «أحللناهم على الرحب والسعة أطعمناهم وأويناهم في محنتهم». أما صحيفتي «كل شيء» وجريدة «الجريدة» قد اتخذتا موقفاً منصفاً بحق «القوميّيين» إضافة إلى جريدة «النهار» التي اعتمدناها مصدراً رئيسياً لهذا التحقيق.
حتى أنّ الدولة «المافيوية» تلك لم تتوان عن تفجير منازلهم في مناطق بقاعية عدة، وتعود بعض المنازل التي نسفت في مشغرة إلى كل من شاكر ناصيف، والد الرفيق شفيق ، حنا رفول والد الرفيق إميل رفول ، ومحمد محسن والد الأمين عبدالله محسن ومحمد مرعي. وفي القرعون نُسِف منزل عساف أبو مراد وفي مجدل بلهيص نُسف منزل لآل حمود.
وحاصرت قرى كاملة في الجبل، على الأخصّ بلدة بيصور، وطوقت حارة حريك وبرج البراجنة لأيام عدة، وأعلنت حلّ الحزب بمرسوم رئاسي والغريب أنّ حلّ الحزب جاء بعد حادث الجميزة بيومين وليس نتيجة للثورة الانقلابية! أي في 11 حزيران وسارع وزير الداخلية إلى القول للصحافة: «هذه المرة ستكون الضربة قاضية على الحزب المنحلّ ولن تكون له قيامة من بعدها»!!.
وكان أبرز الموقوفين «المتّهمين بإعداد المؤامرة الإرهابية «من كبار المسؤولين في الحزب وعددهم 19 موقوفاً وهم: فؤاد أبو عجرم، كميل جدع، لبيب زويا، سليم الخوري، إبراهيم يموت، حسن الطويل، الدكتور عبدالله سعاده، كامل أبو كامل، وإنعام رعد ناموس عمدة الإذاعة ، هشام شرابي ناموس عمدة الثقافة، الدكتور رؤوف أبو الحسن منفذ عام المتن، فؤاد شاوي ناموس عمدة التدريب، خليل صعب ناموس عمدة المالية وعجاج المهتار، فيكتور أسعد مفتش التدريب سابقاً وقد أصيب في حادثة الجميزة وأفادت الصحف بأنه توفي متأثراً بجراحه!
أما الرفقاء الذين تمكّنوا من الفرار ولم تتمكّن السلطات من إلقاء القبض عليهم وحوكموا غيابياً هم: محمد أبو حسن، عبد اللطيف كنفاني، عادل عجمي، إبراهيم الخوري، بشير فاخوري، الياس قنيزح، معروف صعب، أسد الأشقر، عباس حمدان، إسكندر شاوي، فارس معلولي، مصطفى عبد الساتر، نواف حردان، أحمد حمود، شفيق ناصيف، فؤاد خليفة، جورج عبد المسيح، عبدالله قبرصي، وأنيس فاخوري. وقد صدر أمر بمصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
شهداء الثورة تمّ اختيارهم «بالقرعة»
والمهزلة الفضيحة أن تشاء وتختار المحكة اللبنانية «عدلاً» يشبها وعلى شاكلة تركيبتها النظامية ليصار إلى اختيارالرفقاء الـ 12 الذين صدر بحقهم مرسوم بالإعدام مستندة إلى قانون 6 و6 مكرّر على اعتباره قانوناً يساوي بين المواطنين «طائفياً» اعتمدته بحقّ شهداء حزب إحدى أبرز مرتكزاته العقائدية فصل الدين عن الدولة، إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، حزب يؤمن بأنّ الأحوال القومية المدنية والحقوق العامة لا يمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدّد أو متضارب ومُقسَّم على المذاهب الدينية الأمر الذي يمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام، «لا بدّ، للدولة القومية الاجتماعية، من وحدة قضائية ــ وحدة شرعية. وهذه الوحدة، التي تجعل جميع أعضاء الدولة يحسّون بأنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا غنى عنه». ولكن ماذا يقال بـ»عدالة» تتهم الحزب بالعمالة اليهودية وتحكم بالموت إعداماً بالرصاص على البطل المقاوم محمد الشلبي الذي أصدر الاحتلال اليهودي أوامر بإلقاء القبض عليه وحكماً بالإعدام لتفجيره مقراً للعصابات اليهودية في حيفا وتفجير منزله وهذا كان سبب انتقاله إلى لبنان. ولم يتوان، كزعيمه، عن قول «شكراً» لجلاده الذي أراح عصبة على عينيه حين آلمته. كما أنّ رجال الأمن تعرّضوا للرفيق محمد ملاعب رغم أنه كان جريحاً مصاباً في رجله من جراء مشاركته في معركة سرحمول، وألقوا القبض عليه ونقل إلى سيار الدرك في بيروت قرب قرب مستشفى أوتيل ديو حيث استُشهد بعد أن تكاثروا على تعذيبه وضربه بقساوة على مرأى رقفائه ليدبّ الذعر في قلوبهن. والرفيق ملاعب من بلدة بيصور انتمى إلى الحزب عام 1937 ومن مآثره المعروفة لدى رفقائه أنه باع كلّ ممتلكاته ليشتري سلاحاً ويشارك في الثورة ملبياً نداء الواجب وزعيمه ضدّ طغمة الطغيان والفساد.
وقد أبت الدولة إلا أن تقود رجال الحزب إلى ساحة الإعدام وفق القانون الآنف الذكر 6 و6 مكرّر، وعلى جرائم يصنفها القانون نفسه في خانة أعمال الشغب عقوبتها لا توصل إلى عامود الإعدام، فاختارت المحكمة بدعة قانونية عندما لم تتمكن من تحديد مطلق النار في سرحمول حيث قتل النقيب توفيق شمعون في معمعة المعركة فقرّرت تحميل دمه لكافة الموقوفين الـ12، ثم تخفيض الحكم بحقّ 6 منهم في سابقة قانونية «تسجل لها» وتسجل على نفسها.. بئس عدالة اهتزّ قوسها لا بل كُسر عن ناصيته، بئس محكمة اتهمت واعتقلت وبطشت وأعدمت بغير رحمة وقد فشلت في محاكمة عقيدة بعيدة كلّ البعد عن إدراكها في مثلها العليا، فاختارت قتل الجسد فكان الردّ سريعا من القوميين: «قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود».
وبحسب ما أفادت الصحف آنذاك، استمرت مذاكرة الحكم بحقّ المتهميين الـ12 نحو خمس ساعات وأصدرت المحكمة العسكرية حوالي الساعة الحادية عشرة مساء الأربعاء الواقع في 16 تموز قرارها فحكمت بالإعدام على: يوسف قائدبيه، مصطفى ملاعب، أديب الجدع، معروف الموفق، خليل يعقوب الطويل، عبد الحفيظ علامة، محمد الشلبي، محمد كساب زعبي، فائز زين، نصري ريا، والأخوين سعيد وعباس حماد .
ونتيجة تدخلات شعبية وسياسية، خاصة بعد تداعي عدد من «نواب الجبل» في منزل نقيب المحاميين وديع نعيم من أجل تشكيل لجنة عفو تنظر في قضية القوميين الـ 12 المحكومين بالإعدام وشكلوا وفداً إلى جريدة النهار ليشرحوا وجهة نظرهم في القضية من منطلق إنساني مطالبين تخفيض قرار الإعدم إلى السجن، إضافة إلى رسالة استطعاف سطرتها باسم أمهات الموقوفين، السيدات: زهية النجار، خانم قدورة، سنيه ديه، ونمازج نصار، وقعها مختار حي المزرعة وفيق زين، وبناء على هذا التمنّي شُكلت فعلاً لجنة العفو المؤلفة من المحامي رضا تامر مقرراً، ومن الأعضاء إميل تيان الرئيس الأول وجورج سيوفي وزهدي يكن وبدري المعوشي واطلعت على طلبات العفو المقدمة من محامي الدفاع إلى جانب برقية استرحام طيرها المحامي محسن سليم محامي الدفاع عن عبد الحفيظ علامة، إلى رئيس الجمهورية مركزاً على أنّ إعدام المتهمين يثير الخواطر والنفوس ولا يوصل إلى النتيجة المنشودة.
فأُعفي بـ «طريقة القرعة» من حكم الإعدام كلّ من يوسف قائد بيه، مصطفى ملاعب، خليل الطويل، فائز زين، نصري ريا، وسعيد حماد استشهد على أثر الثورة الانقلابية وأُبقي على الموقوفين: أديب الجدع، محمد ابراهيم الشلبي، محمد كساب الزعبي، معروف موفق، عبد الحفيظ علامة، وعباس حماد وقد أُعفي أخوه الأصغر سعيد في حين أُبقي على عبد الهادي قيد الاعتقال .
أما في التفاصيل، فعند الساعة السادسة من مساء الأربعاء 19 تموز أصدر العميد جميل لحود قائد موقع بيروت أمراً بتشديد الحراسة على سجن الرمل والطرق المؤدية إليه إلى محلة بئر حسن حيث تقرّر تنفيذ إعدام الرفقاء الستة الذين صدر القرار بحقهم، وقد رابط رجال الدرك والجيش على سطوح السجن وحوله وعلى الطريق المؤدية إلى بئر حسن فمنعوا المرور ونُصبت الأضواء الكاشفة فوق السجن.
وعند الساعة الثالثة من فجر الخميس الواقع في 21 تموز وصلت إلى سجن الرمل عدة سيارات تتقدمها دراجتان تابعتان للجيش ونزل معاون المدعي العام المركزي نعيم العياش والنقيب عزيز الأحدب ممثلاً المحكمة العسكرية والقاضيان مرتضى وبولس وطبيبان من الجيش اللبناني والخوري أسبيردون مطر والمشايخ رامز اليماني علي بزي وخضر حسن الحلبي لتبرئة ذمة المحكمة مذهبياً .
جثامين الشهداء كيف تصرّفت بها الدولة وأين دفنت؟
وإمعاناً في القهر.. وكما رفضت السلطات اللبنانية السماح لسعاده برؤية زوجته وبناته قبل إعدامه، وهذا خرق لحقّ إنساني تقرّه القوانين في العالم كله، وقد سأل المحكمة هذا الطلب ثلاث مرات، وثلاث مرات رفض طلبه، كما أنها لم تسمح لذويه باستلام جثمانه ودفنه بمسقط رأسه ضهور الشوير حيث ثبت حضور نايفة مجاعص ابنة عمته، نيابة عن عائلة الزعيم، حيث كانت زوجته جولييت المير وبناته قيد الإقامة الجبرية في دير سيدة صيدنايا في دمشق ولا يوجد أحد من إخوته في لبنان، ليتم تجاهل طلبها من المحكمة وتمت إحالتها إلى وزراة الداخلية لمتابعة الأمر.. والأمور على تسارع !! وبقية الحكاية معروفة!! أو بعضها !
وكما الظلم الواقع على زعيمهم وقع أيضاً على الرفقاء للمحكومين بالإعدام وقد منعوا من رؤية أهاليهم واحتجزت جثامينهم بعد الإعدام رغم حضور عدد من نساء عائلاتهم يطالبون برؤيتها إلا أنّ أزلام السلطة أصرّوا على «التصرف» بالجثامين إلا أنه شوهد يوم الأربعاء 19تموز عدد من النساء القادمات من دمشق وهن يجهلن تماماً مصير أبنائهن وكان بينهن شقيقة محمد الشلبي، ووالدة عباس حماد، ووالدة فايز زين، ووالدة نصير ريا، والدة محمد الزغبي، وشقيقة أديب الجدع ، وحاولنا مع الدولة دون جدوى معرفة المراسيم التي صدرت مساء بحق أبنائهن!! وقد شوهدن في الصباح الباكر في مدافن الباشورة وقد استهدين على التراب الذي حُث على الشهداء الستة..
أما الشهيد عساف كرم فتمّ نقل جثمانه بسرية تامة بعد استشهاده في مشغرة في 3 تموز ، بمبادرة من أبناء عمته روفايل وجريس الخوري إلى بلدة والده الرفيق إسبر عساف «زبوغا» ودُفن بمدافن العائلة ثم بنيت فوق مدفنه كنسية سيدة مار تقلا القائمة حتى اليوم.