الملكة بوديكيا تقود آخر الثورات الكبرى!

د. يسري عبد الغني عبد الله

لم يكن من السهل على الرومان غزو بريطانيا، ورغم أنّ الغزو بدأ 43 ميلادياً، إلا أن الجنود الرومان لم يصلوا إلى سكوتلندا إلا بعد جيل آخر. ولقد قام البريطانيون بثورات عدّة على محاولات جنود الرومان لإهانتهم واستغلالهم وسوء معاملتهم.

وقادت بوديكيا، تلك الملكة البريطانية الشجاعة، أهمّ هذه الثورات التي وقفت ضدّ البطش الروماني، ففي عام 61 ميلادياً، توفي زوج بوديكيا، الذي كان ملكاً على إحدى القبائل وتدعى «إيسني»، التي كانت تعيش في منطقة «نورفولك»، ولما كان هذا الملك خاضعاً للرومان، وقد اضطر أن يترك مملكته لهم في استسلام غريب بدلاً من أن يدافع عنها أو يقاوم احتلالهم الغاصب، أو على الأقل يتركها لأرملته الشابة، أو ابنتيه.

سيطر الرومان على جميع الأراضي الملكية، كما صادروا أملاكاً أخرى كثيرة بعد نهبها وسلبها، وجعلوا كثيرين من السادة والنبلاء عبيداً أذلّاء، وطالبوا بردّ جميع الديون التي ادّعوا أن السادة أخذوها منهم، وبعد كل ذلك طالبوا بجنود يحاربون معهم، كما طالبوا بضرائب باهظة على جميع أفراد الشعب.

وعندما احتجّت بوديكيا على مثل هذه الأعمال المشينة غير الإنسانية، ضُربَت بالسياط أمام الناس، وحرّض الرومان أهل بلدها على إهانة ابنتيها، فقرّرت الثورة بمساعدة قبيلة «تيرينوفانتيز» في منطقة «سوفولك»، التي اغتُصبت أراضيها ومُنحت لجنود الرومان الذين استقرّوا في المدينة الجديدة «كولشستر». وعلى رغم إهانة الرومان لهم، فقد قاموا بتشييد المدينة، وحرثوا الأرض التي كانت في أيديهم في يوم من الأيام، متحمّلين كلّ الصعاب والمشاقّ التي تعرّضوا لها.

هذا، وقد عبّر المؤرّخ الروماني الكبير تاكيتوس، الذي كتب بعد أربعين سنة على لسان البريطانيين هذه الكلمات: «كان لكلّ قبيلة ملك، أما الآن فيحكمنا اثنان، فالقائد يصبّ غضبه صبّاً على حياتنا، وجامع الضرائب يركّز همّه على نهب أملاكنا، أما نحن الرعايا فملعونون بأيّ حال من الأحوال، سواء اختلف سادتنا أو اتفقوا، وكانت جماعات الجنود أو العبيد تمزج العنف بالإهانة والإساءة، ولم يسلم شيء من جشعهم ورغباتهم المتوحشة، وفي الحرب كان الأشجع أو الأقسى هو من يسلب وينهب ويعتدي وينتهك الحرمات، كما يحدث اليوم، فكان الجبناء والنهابون يسلبون بيوتنا، ويختطفون أطفالنا، ويغتصبون نساءنا، ويأخذون رجالنا وشبابنا جنوداً أو عبيداً لهم».

لقد أفزعت الثورة التي قادتها بوديكيا المحتل الروماني، وكانت مدينتهم الجديدة وهي «كولشستر» من دون أسوار أو جدران، ولم يكن هناك جنود رومان تحت أيديهم أو على مقربة منهم إلا على بعد 160 كيلومتراً، بل بدت «نذر النحس» ـ كما يعتقدون. بسقوط تمثال النصر من على قاعدته، وصاحَبت ذلك صيحات غريبة في الشوارع ليلاً.

وبعد حين، أصبحت تلك الصيحات الغريبة هي صيحات جيش الملكة بوديكيا الشجاعة المخلصة لبلادها، فقد احترقت المدينة بكاملها في يوم واحد، وهلك كل شيء، أما الفرقة الرومانية التي أرسلت للدفاع عن المدينة فقد حوصرت وأبيدت تماماً، كما قتل الرومان في قلاعهم النائية الحصينة، وبدأت الملكة بوديكيا تتّجه رأساً إلى لندن.

وكان الحاكم العام الروماني الذي يدعى سوتو نيوس بولينوس، بفرقته في مدينة «إنجليسي»، ولمجرد سماعه الأنباء، سار بمفرده إلى لندن، تاركاً فرقته لتتبعه بأقصى سرعة ممكنة، وأرسل على عجل في طلب الفرقة الأخرى في «كلوشستر»، ولكنهما لم يصلا في الوقت المناسب.

لندن العاصمة البريطانية الشهيرة، لم تكن لها أسوار، كانت مدينة كبيرة مترامية الأطراف، لدرجة أنه كان من الصعب جداً على أي قائد الدفاع عنها بقواته، ولذلك تركها لتلقى مصيرها المحتوم، وعاد حزيناً مهموماً ليلحق بفرقته.

أما بوديكيا فقد خرّبت لندن، حتى أن بعض المؤرّخين يسمونها «المرأة التي خرّبت لندن»، في الوقت نفسه الذي خرّبت فيه مدينة «سان آلبان»، وهما من أعظم مدن الجنوب الإنكليزي، فقتل كل شخص وسط ألسنة النار، أو أثناء القتال، أو أعدم في ما بعد أو صلب، ولم يترك إلا رجال بولينوس وحدهم، وأخذ الذعر مع الرعب منهم كل مأخذ، وتبدّد أو أبيدت الفرقة المرابطة في «كلوشستر»، من دون أن تستطيع أي حراك للكر أو الفر.

وأدرك بولينوس أن الخطر العظيم يكمن في محاصرته أو الهجوم عليه قبل استعداده للمواجهة، ولذلك اختار مكاناً في وسط إنكلترا، حيث كانت إحدى الغابات تحمي جانبيه ومؤخرته، وعندما ظهر البريطانيون هاجمهم بشدة قبل أن يهاجموه. وحتى يسدّ البريطانيون عليه سبل النجاة، استخدموا عرباتهم كسدود للمنفذ الوحيد، ولذلك لم يهرب سوى قليل منهم، عندما اشتبك معهم الرومان وأعملوا فيهم القتل من دون رحمة. أما الملكة بوديكيا قائدة الثورة فقد تجرّعت السمّ بعد أن أدركت ضياع كل شيء، وأبيد جيشها عن بكرة أبيه!

أراد بولينوس أن ينتقم بعنف لمقتل 70 ألفاً من جنوده الرومانيين، غير أن هذا كان يعني الاستمرار في القتال المشؤوم، ولذلك أرسل حاكماً جديداً من روما إلى بريطانيا يحمل شروطاً للسلم أكثر اعتدالاً.

كانت هذه الثورة هي آخر الثورات الكبيرة، تعلّم بعدها البريطانيون تقليد الرومان في الخطابة والزي، ولكنهم فشلوا في تقليد أعمال الرومان، ومارسوا الرذائل الرومانية، ولقد كانت هزيمة الملكة بوديكيا تعني ضياع التقاليد البريطانية القديمة، إذ أصبحوا مولدين من البريطانيين الرومانيين.

وفي لندن تجد هناك تمثالاً رائعاً للملكة بوديكيا وهي تركب عربة شبه حربية بحصانين، رافعة سهماً كعلامة للنصر، وفي المتحف البريطاني تجد لوحة فيها الملكة بوديكيا ترتدي تاجها الملكي، واقفة بين جنودها في ساحة القتال، تشجعهم على حمل السلاح لاستعادة حريتهم.

باحث ومفكّر في شأن التراث ـ مصر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى