«باب الحارة»… اغتال دمشق وأعدم الإرث التاريخيّ

آمنة بدر الدين الحلبي

حين يكون الحديث عن دمشق، تنثرُ الرياح أوراق الورد الدمشقيّ على وجه الحِسان، وتتلاعب بزهر الياسمين لتنقل عطره على محيّاهم ليفوح عبق العشق، ويزغرد الحبّ من شفاههم، ويرتّل الدوري سمفونيته على أرواحهم.

حين يكون الحديث عن دمشق، تنتفض الحارات العتيقة لتقصّ حكايات الياسمين المترامية على حروف اللغة العربية، وهدب التاريخ الذي يعجّ بالموروث الثقافي، والروحي والصوفي، ولا تقتصر تلك الحكايات على باب حارة واحدة أو تقف عنده وتزوّر التاريخ.

حين يكون الحديث عن دمشق، تأخذني الذاكرة إلى خمرة قهوتها، حين تسرقها الريح من جنبات الشرفات، لتنام في حضن الياسمين، على صدر فستقية يترنح الماء من شفاهها، ويتغزّل الشعراء بأجمل كلمات حبّ من كركرات صوتها، لا نميمة نساء تُرسَم حولها، أو تُحاك المؤامرات مع زوجات زعيمها.

دمشق ملكة سريانية حيّرت العلماء والمفكّرين في لفظها ـ دمشق ـ «الأرض المسقية»، ظهر اسمها «دمشقو» للمرّة الأولى في التاريخ حوالى 1450 قبل الميلاد، وذلك في سجلّات الفرعون تحوتمس الثالث الحربية، وبعد هذا التاريخ بحوالى ثلاثة قرون ظهر الآراميون. كيف نختزلها في باب حارة واحدة مغلقة على الحلاق والسايس والعنتري؟

دمشق ملكة آرامية اختزلت كلّ النساء في جمالها، حين تعقد مجالس الثقافة يقبل العشاق ليلتفّوا حول وسطها، ويطرحوا قصائدهم في حضرتها. وحين تُدار حلقات العلم والأدب تصبح مهوى الأفئدة، وقوت القلوب، حيث تنام اللغة العربية بين جذورها والضاربة بعمق الأرض.

دمشق أقدم العواصم وأجملها، مهد الياسمين وحضن المثقفين، نطق الجمال من عينيها، وانحنى الأدباء إجلالاً في سهولها الخصيبة يرويها نهر بردى وفروعه الجميلة راسماً ومزركشاً غوطة غناء تحلّق حولها الفنانون لرسم لوحة تشكيلية تخليداً لها. وتحت شموخ قاسيون انحنوا إجلالاً لبهاء قامتها، فكيف نشطر منها حارة تنجب النساء الجاهلات القابعات المغلوبات على أمرهن، والعنتريات والمعتوهين متسلّحين بكافة أنواع السكاكين؟

دمشق هي أيقونة العواصم حين نشمّ من ساستها وزعمائها في تلك الفترة رائحة العطاء والنضال والفطنة والكياسة واللباقة أمثال الرئيس السياسي المحنّك محمد علي العابد. كان ذا معرفة ثاقبة بتاريخ أمته، ويحمل ذاكرة قوية، عاد إلى دمشق عام 1919 وانخرط في العمل السياسي وصار عام 1923 وزيراً للمالية. وفي عام 1932 رُشّح لرئاسة الجمهورية على قائمة الكتلة الوطنية ففاز بها ضدّ مرشح الفرنسيين صبحي بركات، متسلّحاً بشهاداته وناطقاً بعدّة لغات أجنبية، ومحدّثاً لبقاً وسياسياً محنّكاً، ولم يكن حاملاً شبريةَ الزعران أو سكينة الذبح في «باب الحارة».

دمشق أسطورة الزعماء والأدباء منهم من دافع بشراسة ضدّ المستعمر الفرنسي من أجل أمته، وحاول المستحيل أن يحقّق خطّاً قومياً سورياً مقاوماً يسير عليه الرفاق إلى الآن، الزعيم أنطون سعاده الذي أعدمته السلطات اللبنانية بتاريخ 8 تمّوز 1949، لكنه ترك إرثاً مقاوماً ونضالاً لا ينتهي حين قال جملته الشهيرة «كلّنا نموت، ولكنّ قليلين منّا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة».

كان يسعى إلى مجد أمة، وقومية لم يتخلّ عنها قيد أنملة، ولإعلاء كلمة الحقّ حين قال: «يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لأضمّد جراح أمتي البالغة».

كان صاحب مشروع نهضوي حضاري، لكن بعض الساسة المسوّسة لم تعجبهم أفكار الزعيم، فاتفقوا على إعدامه. ولا تزال إلى الآن أصابع الخيانة تعمل في الخفاء، تثيرها حرباً بسوساً تأكل البلاد، ومسلسلاً يزوّر التاريخ ويدخل في أدمغة الناس ليغرّر بها في سبيل شهوة السلطة.

دمشق حضن المفكرين والمناضلين، إذ حطَّ رحاله المناضل غسان كنفاني في قلبها وعمل بها وعشق ابنتها حتى كتب «دونك أنا في عبث، أعترف لك مثلما يعترف المحكوم أخيراً بجريمة لم يرتكبها».

قالها لملهمته ليظهر جانبه الذي لا يعرفه الكثيرون في عالميه السياسي والأدبي، جانبه العاشق ذو القلب المرهف، لقد قالها لزهرته الدمشقية الكاتبة غادة السمّان.

عرفه العالم صلباً جامداً قوياً، منتصراً بقلمه، مواجهاً أعداءه ومغتصبي وطنه، الذين اغتالوه في صيف 8 تموز 1972 على يد «الموساد الإسرائيلي» خشية كلماته، عرفه العالم مناضلاً قومياً، لا يعرف للضعف والعاطفة طريقاً، لكن لم يعرفه العالم عاشقاً متذللاً خاضعاً تحت إرادة الحبّ وسطوته، لم يعرفه العالم مغرماً ينسج قلمه كلمات تفوح حباً برائحة تمتزج فيها رائحة زهر دمشق وبارود يافا، لم تحتضنه حارة وتقفل بابها عليه وإلا لما نما فكره النضالي المقاوم ضد الاحتلال «الاسرائيلي».

دمشق حلمٌ جميل تتكئ بقلبها على زند الريح لتحملنا على جناحيها وتحطّ أرواحنا في الشوارع الجميلة حيث المقاهي التي كانت تضم بين جنباتها تاريخٌ دمشقيٌ عريق، ونخبة من المثقفين والمفكرين والأدباء والشعراء السوريين والعرب في مقهى «هافانا» من أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، الذي كان شاهداً على العصر، وكان روّاده من مصر يشبّهونه بمقهى «الفيشاوي» القاهري، ولم يكن حينذاك مقهى «هافانا» يقبع في حارة من حارات الشام المقفلة بباب كبير التي اغتالت دمشق وأعدمت الإرث التاريخي.

دمشق الفاردة أجنحتها على العالم ترفض مسلسل «باب الحارة» الذي زوّر التاريخ الجميل، واختزل تاريخ الأطباء والمهندسين على مدى قرن ونصف قرن، وأخفى إرث الشعراء والأدباء وقتل ملامح قصائدهم حين تغزّلوا في دمشق هل يسامح نزار قباني أعمالهم التي أسّست لقتل دمشق، وهل ينسى الجواهري أفعالهم، والماغوط يرفض بابهم لأنه كان محلقاً في سماء الحرّية ومدركاً أن للشام سبعة أبواب وليس باباً واحد يُغلق كل مساء فتُقتل معه الحرّية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى