مخاطر الذاكرة الإلكترونية على الواقع العربي
د. سمير الخطيب
لعب الإعلام دوراً بارزاً في صناعة الأحداث عبر التاريخ وكان له الأثر البالغ في تحوّلات كثيرة، باعتباره الوسيلة الأهمّ للتواصل مع الشريحة الأكبر والأوسع من البشر. فالثورة الفرنسية مثلاً جاءت بعد التطوّر الكبير في الصحافة المكتوبة، والتي اعتبرت وقتها إنجازاً كبيراً ساهم في انتصار الثورة إلى حدّ كبير. وفي مطلع الخمسينيات لعب الراديو دوراً أساسياً في دعم المقاومة ضدّ المستعمر، وساهم في تعزيز وانطلاق حركات التحرّر الوطني في بلدان عدة، إلى أن أخذت ثورة الاتصالات بالظهور في القرن العشرين بأشكال متعدّدة. وكان لتطوّر تكنولوجيا الإعلام الأثر الأهمّ في صنع الحراك الحاصل في العالم العربي، رغم أنّه لم ينفرد في صنعه، ولم يكن المحرّك الأول له، لكنه كان الأهمّ بما يمتلك من قدرة على تسريع وتفاعل الأحداث، لا سيما أنّ هذا النظام الإعلامي العربي قد تفوّق على النظام السياسي العربي الذي بدا عاجزاً عن احتواء آثار العولمة والإعلام.
لقد استهدف المخطط الغربي – الصهيوني في هذه الأحداث الهوية الثقافية، من خلال تحطيم وسرقة وتهشيم المعالم الأثرية العريقة والتحف النادرة بغية محو الذاكرة الوطنية. نعم إنّه فعلُ إبادة بكلّ ما للكلمة من معنى، إنّ ثقافة الجماعات البشرية هي كائن يتحوّل ويتغيّر من الداخل على ضوء تغيير المصادر القيميّة والسلوكيات، ومن الخارج نتيجة علاقة الفرد بالخارج. وهذا ما حصل مع عدد كبير من الشباب باعتبارهم الشريحة الأكثر تأثيراً في الأحداث التي وقعت في العالم العربي، بحكم تكوينهم النفسي والاجتماعي والظروف الحياتية التي باتت تشكل لهم إحباطاً ويأساً من المستقبل الغامض.
الأمر الذي دفعهم إلى رفض المعايير والتوجيهات والسلطة التي يمارسها عليهم الكبار، بل ذهبوا أبعد من ذلك وأخذوا مواقف عدائية منهم، وهذا ما لمسته من خلال تجربتي في الكثير من الحوارات التي أجريتها مع أعداد كبيرة من المحتجّين على مدى أيامٍ وليالٍ.
إنّ أخطر ما جرى في هذا الحراك بروز الشعارات الدينية الطائفية والمذهبية، بما تحمله من أحقاد وموروثات وتناقضات فشلت المراجع الدينية في التصدّي لها عبر التاريخ، ولم تمتلك الجرأة والفكر في إيجاد صيغ وضوابط أخلاقية تقارب بين أبناء الوطن باعتبار الأديان عامة جاءت لخدمة الإنسان وتحسين ظروفه الحياتية على الأرض، من حيث الحرية والكرامة والمساواة، وهي أمور لا تتبدّل لأنها ترتبط بالمطلق، وما يتبدّل هو الاجتهاد فهو يحتاج إلى عقول نيّرة تمتلك الإرادة والبصيرة على عكس ما يحصل اليوم في عالمنا العربيّ.
بكل أسف أقول لقد استفحل الاعتقاد بالموروث الديني حتى أصبحت أقوال وكتب واجتهادات بعض رجال الدين وكأنها نصوص مقدّسة، وليست آراء قابلة للخطأ والصواب. مما دفع البعض ممن تأثر بهم إلى ارتكاب الجرائم بأبشع صورها من ذبح وتقطيع وتشويه وسبي وتحليل محرّمات. الأمر الذي جعل عدداً كبيراً من الشباب يؤمن بأنّ الدين الإسلامي دين إقصائي ودموي وقائم على القتل والتكفير، وانقسم هؤلاء بين رافضٍ ومقتنع بقدرة الدين على التأقلم مع قيم العصر.
ما أردت قوله من خلال هذا العرض هو إنّ الحرب دخلت أطوارها الأخيرة، وأخطر ما سنواجهه من تحديات هو هذا الفكر المتطرف والذاكرة الإلكترونية التي تتيح للفرد الاحتفاظ بالكثير من المشاهد الحيّة التي قد يبني عليها البعض في المستقبل البعيد بعد هذا التطوّر الهائل في عامل التقنيات، فالقدرة على الاحتفاظ بالصور والأحداث باتت أمراً متاحاً على عكس الذاكرة البشرية التي لا تستطيع أن تحتفظ بالماضي وتستدعيه بكلّ تفاصيله إذ تفقد الذاكرة معلوماتها وتشوّه في الكثير من الأحيان الحقائق.
وما أريد التركيز عليه هنا أنّ لهذه التقنيات العديد من الإيجابيات، ولكن في المقابل لها تأثير عكسي، حيث تقوم هذه التقنية بتطويع الإنسان وإخضاعه لنظامها، وبالتالي تجعله أسيراً للكثير من الأحداث المؤسفة التي وقعت خلال هذا الربيع الدمويّ. وبالتالي تشكل عاملاً تحريضياً يورث الأجيال الحقد والضغينة ليستخدم في التآمر والانتقام وزيادة الخلافات لتمزيق المجتمعات العربية في المستقبل. وفي هذا السياق أقول إنّ على الحكومات أن تتحمّل مسؤولياتها تجاه شعوبها وتعلن حالة التأهب القصوى. فنحن اليوم في سباق مع الزمن لخلق مجتمع سويّ متسامح معافىً. وهذا يتطلب جهوداً جبارة تتكاتف فيها المجتمعات الأهلية إلى جانب الحكومات وتقوم على الأسس الآتية:
أولاً: تقوية مشاعر الشباب في الانتماء للأسرة والمجتمع من خلال برنامج تعليمية محدّدة ومعسكرات للعمل والإرشاد الاجتماعي، لا سيما أننا أمام طفرة شبابية باتت ظاهرة عالمية ناجمة عن مجموعة من التحوّلات غير المسبوقة تاريخياً.
ثانياً: إعادة النظر في المنظومة التعليمية ليس على مستوى الجامعات فقط، بل الرجوع إلى مرحلة القواعد والتعليم الابتدائي والأساسي.
ثالثاً: تعزيز مفهوم الأمن الثقافي لكلّ ما هو دخيل ومؤثر على مجتمعاتنا.
رابعاً: تشجيع ثقافة البناء بدل الهدم وتعزيز مفهوم المواطنة.
خامساً: تقديم صيغة جديدة لخطاب واقعي يحترم عقول الناس.
سادساً: وحده التخطيط السليم يُبطل مفعول الذاكرة الإلكترونية ويساهم في تنقيتها وطيّ صفحة الماضي على قاعدة الإقرار بالمسؤولية الجماعية والفردية عن خطايا الحرب والنظر إلى الإنسان كقيمة بحدّ ذاتها بمعزل عن انتماءاته والدعوة إلى احترام الآخر من دون السعي لإلغائه.
بناءً على ما تقدّم نجد أنه من الضروري البدء بافتتاح مراكز بحثية متخصّصة لها ميزانيات ضخمة ومستقلة تشرف عليها وزارات التعليم والتربية والأوقاف والثقافة والشؤون الاجتماعية والإعلام، تعمل جميعها على بناء استراتيجية متينة مبنيّة على الروح الوطنية، بحيث يشعر كلّ مواطن بأنه وريث تاريخ واحد من أجل جميع أبناء الوطن وتهدف إلى إعادة تأهيل المجتمع بالشكل الصحيح، فبناء الإنسان أصعب وأهمّ وأخطر من بناء الحجر، وما جرى ويجري في بلدان «الربيع الدموي» خير دليل على ذلك.
عضو مجلس الشعب السوري