التحكيم التجاري واتفاق التحكيم

إياد عويكة

التحكّيم لغة مصدر حكم يُحكِّم بتشديد الكاف، أي جعله حكماً، والحُكْم، بضمّ الحاء وسكون الكاف، هو القضاء، وجاء بمعنى العلم والفقه والقضاء بالعدل، ومنه قول الله عز وجل «وآتيناه الحكم صبياً»، ومنه الحكمة بمعنى وضع الشيء في محله، والحَكَم، بفتح الحاء والكاف، من أسماء الله الحسنى، قال تعالى «أفغير الله أبتغي حكماً»، ويُطلق على من يختار للفصل بين المتنازعين، وبهذا ورد في القرآن الكريم «وإن خفتم شقاقاً بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها».

والتحكيم هو عقد كسائر العقود الأخرى سواء ورد في صيغة شرط تحكيم في العقد الأصلي موضوع العلاقة القانونية، أو في صيغة اتفاق مستقل عن هذا العقد، وسواء ورد هذا الاتفاق المستقل قبل أو بعد نشوب النزاع، وهذا يقودنا إلى القول بأنّ اتفاق التحكيم، كعقد، يخضع للقواعد العامة في العقود من حيث انعقاده وإثباته وآثاره وانقضائه، إلا إذا ورد حكم قانوني خاص به، حيث تكون الأولوية في التطبيق عندئذ للقواعد الخاصة 1 .

ويعدّ الاتفاق على التحكيم المرحلة الأولى من المراحل التي تمر بها عملية التحكيم، فهي مرحلة تسبق مرحلة الإجراءات التي ينبغي اتّباعها في هذه العملية، واتفاق التحكيم يمثل بلا شك نقطة الانطلاق في عملية التحكيم، واتفاق التحكيم هو عقد يتم بين طرفين، وتتبع ذلك ضرورة توافر شروط صحة هذا العقد من أهلية أطرافه وتوافر شرط الرضى، بالإضافة إلى وجود سبب ومحل مشروعين. كما يرتب شرط التحكيم آثاره إذا ما تمّ سليماً وفقاً لشروط صحته . 2

إلا أنّ اتفاق التحكيم يختلف عن العقود الأخرى من حيث أنه لا يوجد له كيان قائم بذاته، وإنما يرتبط دائماً بوجود علاقة قانونية معينة، غالباً ما تكون عقداً من العقود، ولكن يمكن أن تكون هذه العلاقة غير عقدية من التصرف الانفرادي الإرادة المنفردة أو الفعل الضار العمل غير المشروع ، والتصرف النافع الإثراء بلا سبب ، أو حتى القانون كمصدر مباشر من مصادر الالتزام، ولا يتصور وجود اتفاق تحكيم من دون وجود تلك العلاقة، وإلا كان العقد في هذه الحالة، أي اتفاق التحكيم، غير ذي موضوع أو محل، ما يترتب عليه بطلانه. ونعني بوجود العلاقة وجودها، ولو مادياً، وليس بالضرورة الوجود القانوني لها. قد يعمل باتفاق التحكيم ويكون هذا الاتفاق صحيحاً، حتى ولو كان العقد المرتبط به الاتفاق باطلاً أو تمّ فسخه لأي سبب، وهو ما يطلق عليه مبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد المتضمن فيه، الذي أخذت به العديد من القوانين العربية.

أولاً: شرط التحكيم

قد يرد اتفاق التحكيم في صيغة شرط يتم إدراجه في العقد الأصلي الذي ينظم العلاقة القانونية بين الطرفين، وهو ما يكثر تطبيقه في الحياة العملية، ويسمى في هذه الحالة بشرط التحكيم، وعادة ما يرد الشرط بصيغة مقتضبة تتضمن فقط الإحالة للتحكيم، كالقول مثلاً أنّ أي خلاف بين طرفي العقد يحال إلى التحكيم، وقد يتوسّع الأطراف في ذلك فيضيفون أحكاماً أخرى لشرط التحكيم، مثل مكان التحكيم والقانون الواجب التطبيق على النزاع، وصفات ومؤهلات كلّ أو بعض الأشخاص الذين سيعينون مُحكِّمين في هيئة التحكيم، كاشتراط أن يكون رئيس الهيئة مهندساً، أو محامياً، أو مدقق حسابات، أو يكون اثنان من المحكمين من القانونيين، في حين يكون رئيس الهيئة مهندساً. كما يجوز أن يتفق الطرفان على جنسية أو جنس وسن كلّ أو بعض المحكمين، وإن كان ذلك نادراً في التطبيق العملي، وإذا كان التحكيم مؤسّسياً، فقد جرت العادة أن تضع مؤسّسة التحكيم المعنية صيغة ينصح الأطراف بإدراجها في عقدهم إذا رغبوا بإحالة نزاعهم إلى تلك المؤسسة. وفي هذه الحالة، تتبع قواعد المؤسّسة في إجراءات وإدارة التحكيم بما في ذلك تعيين المحكمين.

ويستوي في شرط التحكيم أن يرد في بداية العقد أو نهايته أو في أي مكان آخر بينهما، وعندئذ يخضع أي نزاع ناشئ عن العقد للتحكيم، إلا إذا تبين من الاتفاق صراحة أو ضمناً غير ذلك.

ثانياً: مشارطة التحكيم

وقد يكون اتفاق التحكيم لاحقاً على قيام النزاع، حيث يتفق الطرفان على إحالة هذا النزاع الذي وقع بالفعل إلى التحكيم. ويطلق الفقه والقضاء على هذا النوع من الاتفاق بمشارطة التحكيم لتمييزه بشكل خاص عن شرط التحكيم وعلى ذلك، فإنّ الفرق بين مشارطة التحكيم واتفاقيات التحكيم الأخرى، هو في ما إذا كان اتفاق التحكيم قد أُبرم قبل نشوب النزاع أو بعده، ففي الحالة الأخيرة، نكون في إطار مشارطة التحكيم، وإلا في إطار اتفاقيات التحكيم الأخرى، ولا يوجد لهذه التفرقة أهمية تذكر في قوانين سورية والإمارات وقطر إلا أنّ هذه القوانين تنصّ على وجوب تحديد موضوع النزاع إما في وثيقة أو صكّ التحكيم، أو أثناء المرافعة كما يقول القانونان السوري والقطري، أو أثناء نظر الدعوى كما يقول القانون الإماراتي، ولكن يلاحظ أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، تحديد موضوع النزاع في شرط التحكيم ما دام أنّ هذا الشرك يتعلق بنزاع مستقبلي محتمل والذي قد يقع وقد لا يقع بتاتاً، لذلك، فإنّ اشتراط ذكر موضوع النزاع في وثيقة التحكيم في كلا القانونين، يقصد به فقط مشارطة التحكيم دون شرط التحكيم. ولكن ليس بالضرورة ذكر موضوع النزاع في مشارطة التحكيم حتى تكون المشارطة صحيحة، إذ يجوز بيان موضوع النزاع أثناء المرافعة أمام هيئة التحكيم وهو أمر بديهي، إذ من غير المعقول أن يتقدم أحد الطرفين بدعوى تحكيمية من دون بيان موضوع النزاع، كما أنه من غير الممكن أن تنظر الهيئة في نزاع وتفصل فيه دون أن يكون هذا النزاع محدداً وواضحاً أمامها.

ثالثاً: التحكيم بشرط الإحالة

شرط التحكيم بالإحالة وهو الصورة الثالثة من صور اتفاق التحكيم ويُقصد بهذا الشرط إشارة المتعاقدين في العقد الأصلي بينهما إلى وثيقة تتضمن شرط التحكيم واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من ذلك العقد، وقد نصّ القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي على ذلك في الفقرة الثانية من المادة 7 والتي تنص …وتعتبر الإشارة في عقد ما إلى مستند يشتمل على شرط التحكيم بمثابة اتفاق تحكيم، شريطة أن يكون العقد مكتوباً وأن تكون الإشارة قد وردت بحيث تجعل ذلك الشرط جزءاً من العقد . يقصد بشرط التحكيم بالإحالة إذاً ووفقاً لما ورد أعلاه إشارة أطراف العقد في صلب العقد إلى وثيقة أخرى تتضمن شرط التحكيم واعتبار هذه الوثيقة جزءاً لا يتجزأ من العقد، ومتى وردت الإحالة في صلب العقد فإنه لا يعتدّ بالاحتجاج أو الجهل بشرط التحكيم الوارد بها، هذا ورغم اعتبار الوثيقة المحال إليها جزءاً من العقد إلا أنّ بطلان العقد لا يؤدي بالتبعية إلى بطلان شرط التحكيم الوارد بالوثيقة، وللإحالة شرطان إذاً لا بدّ من تحققهما 3 .

الشرط الأول: أن تكون الإحالة واضحة لا لبس فيها.

الشرط الثاني: أن يكون المستند المحال إليه جزء من العقد محل النزاع.

يتبين لنا أنّ شرط التحكيم بالإحالة يفترض أنّ العقد الأساسي قد جاء خالياً من أي شرط تحكيم وأنّ الأطراف اكتفوا بالإحالة إلى وثيقة تتضمن شرط التحكيم وبطبيعة الحال لا بدّ أن تكون هناك صلة وارتباط بين العقد المتضمن الإحالة والوثيقة المحال إليها، وعلى ذلك فإنّ شرط التحكيم بالإحالة تكون له القوة الإلزامية نفسها التي تمنح لشرط التحكيم أو مشارطة التحكيم ولا يمكن لأحد في مجال التجارة الدولية مثلاً أن يدّعي أنه كان يجهل تضمن الوثيقة لهذا الشرط إذ يُفترض في هذا المجال أنه يعلم به طالما أنه يتعامل في نشاط تجاري دولي معين محل عقود نموذجية أو شروط عامة.

يبدو أنّ ما قاله أرسطو يختصر كلّ مفاهيم التحكيم ويوضحها بشكل عملي ويشرح فلسفة هذه الوسيلة العلاجية السريعة التي اجترحها العقل بقوله المحكّم يرى العدالة أما القاضي فيرى التشريع .

ومما لا شك فيه أنّ اتفاق التحكيم في الواقع ما هو إلا عقد ومن ثم فإنه يخضع لأحكام النظرية العامة في العقود وإن كان اتفاق التحكيم أياً ما كان شكله سواء أكان شرطاً أو مشارطة أو تحكيماً بالإحالة فإنه يعدّ عقداً مستقلاً عن العقد الأصلي الذي نشأ بشأنه النزاع، رغم أنّ اللجوء إلى القضاء وما يحمله من مجانية وضمانات للخصوم، إلا أنّ بعض السلبيات التي تشوبه من خلال بطء الإجراءات، وإطالة أمد الدعاوى، كان لا بد من اللجوء إلى نظام لفضّ النزاعات، موازٍ للنظام القضائي، يكون مرناً وسريعاً وسرياً، وبفضل هذه المزايا أصبح التحكيم نظاماً قضائياً عالمياً إلى جانب النظم القضائية الوطنية، ويمكن القول إنّ هذا النظام قد تحول من وسيلة بدائية لحلّ المنازعات بين أفراد المجتمع وإلى وسيلة رسمية من وسائل حسم المنازعات وذلك لما يتميز به هذا النظام من السرعة في الحسم والسهولة في الإجراءات والسرية، كما أنّ الحكم الصادر في مثل هذه النزاعات يحوز حجية الأمر المقضي به.

1 أحمد أبو الوفا، إجراءات التحكيم الاختياري والإجباري، الطبعة الرابعة منشاة المعارف بالإسكندرية.

2 أحمد السيد صاوي، التحكيم طبقاً للقانون 27 لعام 1994 دار النهضة العربية 2002.

3 أحمد سيد صاوي، التحكيم من منظور المشرع في البلاد العربية، بحث قانوني مقدم إلى مؤتمر القواعد القانونية الناظمة للتحكيم التجاري والمنعقد في أبو ظبي جامعة الإمارات العربية المتحدة ـ العين 2006.

عضو مركز العدالة والتحكيم والدراسات القانونية في سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى