«حكايا السعتر البرّي»!

محمد رستم

قراءة لنصّ الشاعرة هيلانة عطا الله في ردّها على الشاعر حسن سمعون، ضمن مساجلة «حكايا السعتر البرّي».

تقول الشاعرة هيلانة عطا الله:

«هي كرمة العشق المقدّس لم تَهُنْ

حين اقترفنا خمرَها

مثل الحمام شدا بأحضان الكروم

فدنَتْ من القلبين

في نزق الهوى أغصانُها

وتمايلت من همسنا

فكأنما قد مسّها عبق النسيم

الله يا ذاك الزمان وعهدنا!

أيام كنّا نسبق الأحلام في صبواتنا

يهمي على ضحكاتنا

هطل الغيوم

الله يوم دعوتني: «سوريّتي»!

كيف انبرت

تتفتّق النجمات في الشريان بل

كيف استحالت مهجتي

أمّاً رؤوماً!

واليوم باعد بيننا الأغراب

حين توافدوا

صدأ من الليل العميّ فلم يعد

للعاشقين سنابل ذهبيةٌ

وبحبلها السرّي

كم عاثت يد

وتطاولت

تستعصر العنقود خمراً من دمٍ

تستنبت «الجهل القديم» هلا يدٌ تبّت

وعشتار البهيّة يستفيق بنهدها

نهرٌ يؤرّخه الغد

ستعود يا سؤل المنى

بارودةً صوفيةً في عشقها

غرزت ضياها في مشيمات الربا

ستعود نسراً

إذ يطيب الموعد».

تحليق مع طائر الفينيق المنبعث من شذرات العشق المتطايرة من حروف الشاعرة هيلانة. وكأن الخمرة التي انتشت بها روحاهما قد وحّدت لديهما الرؤى. ولم لا؟ أليس المنبع كرمة سورية واحدة؟ وكأني بهما قد خمرا مكنوناتهما الشعرية في دنٍ واحد. فجاءت المساجلة متساوقة، كعزف فريد على ناي العشق الأبدي، مع الخصوصية الممتعة للاختلاف بين ذكورة وأنوثة، والتي تأتي كقرار وجواب وبهما معاً تكتمل المعزوفة. كما بديا كطائرين من طيور الفلامنغو، يتناوبان الرقص البديع في الدورة النزوية على حلبة الشعر، كلّ منهما يعرض مفاتن إبداعه في محاولة لإحداث الأثر النفسي لدى الشريك ولضمان القبول في تهويمات تبغي الوصول إلى التكامل لا التفاضل.

ولكن، مهلاً، مهلاً، وكي لا ترتحل الظنون بنا بعيداً، فإن ما يظهر في النصّ غزلاً وهياماً، نكتشف حقيقته بقليل من التمعّن. أجل، هو ولهٌ عميق، بين حدّي العزف، قرار وجواب. إلا أنه عشق يسمو فوق الشخصانية، هو العشق الصوفي للوطن. المتماهي مع عشق الحبيب. لذا، فالحروف التي متعتنا بعباراتها الغزلية ترتحل بأرواحنا الى المدى البعيد. محلّقة فوق الأسوار الذاتية الضيقة. هي حروف مثلثة الرؤوس. ظاهرها غزلي، بُعدها وطني سوريّ، باطنُها صوفي. وإذا اكتفينا بالظاهر منها فإننا بذا، نطعم أنفسنا الجوز الفارغ. لأن الغزل الظاهري هنا مركّب للوصول إلى الهدف الأسمى، وكأني بحروف الشاعر حسن سمعون الذي بدأ المساجلة تصرخ مردّدة قول الشاعر:

«طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعب».

ولعلّ الشاعرة المبدعة هيلانة تلمّح منذ البدء بإشارة ذكية إلى ذلك، وأنه عشق من نوع آخر. عشق مقدّس.

هي كرمة العشق المقدّس.

هذا وقد تبدّى الحياء الطاهر في حروفها. إذ ترى في استحضار مفردات العشق والخمرة نوعاً من اقتراف الذنب. وهذا منعكس لتأثيرات مجتمعية شرقية. حين اقترفنا خمرها وتنقل الشاعرة وبحروف متألقة وحركة رشيقة لحظات عشق متفردة. فنحن في تبادلنا أنخاب العشق المقدّس بدونا كحمائم تتبادل قمقمات الحبّ بين أغصان الدوالي، وفي لحظات الوله تتمايل الأغصان نشوة وكأن مسّاً من عشقنا قد ألهب مشاعرها، وتستذكر الأيام الخوالي حيث كان السوريون ينعمون برغد العيش، وأحلامهم تتقافز أمامهم في عالم مليء بالخير والفرح، راسمة لتلك الأيام لوحة مشرقة وهذا من كينونة الذاكرة التي تسبغ ما مضى ببياض الحنو. ويأتي ذلك كمقدمة لما ستعرضه علينا من صورة مأسوية آل إليها حال السوريين بعد أن عاث الإرهاب الأسود في شرايين السوريين فساداً، واستبدل خمرة الودّ والمحبّة بخمرة الدم والقتل، وزرع الأحقاد المستنبطة من جهل العصور السالفة. ولا تبتعد شاعرتنا عن التناصّ مع القرآن: هلا يد تبّت في قوله «تبّت يدا أبي لهب»، متمثلة روح السوريين في التآخي وتقديس الكتب السماوية. وكأني بها ذاك الصوت الصارخ في البرية، أن أقيموا سبل الحبّ والمودّة التي هي أقانيم السوريين في نمط تفكيرهم الحضاري.

وتتّكئ شاعرتنا على موروثها الثقافي السوري، فتستحضر عشتار الإلهة السورية القديمة التي يفيض منها الخصب والحبّ نهراً متجدّد العطاء، مؤكدة وبتفاؤل خلاق، أن أيام الفرح قادمة وستعود سورية كما كانت شامخة تطيب فيها الحياة ويحلو اللقاء. أوليس هذا في منظور الأدب الراقي، وكما أشرنا سابقاً فقد نهلت والشاعر حسن من خابية معتّقة واحدة هي ذاك التراث السوري الثر، في تأكيد على تماهي الرؤى لدى السوريين في نظرتهم إلى مأساتهم. بل نجدها تستعير الوحدات الصغرى ذاتها سوريتي، حبلها السرّي، مشيمات عشتار ، التي ترد عند الشاعر حسن سمعون، والتي تقتضيها طبيعة المساجلة ووحدة الموضوع. وكما نوّهنا سابقاً أن الشاعر المتفرّد حسن في مساجلته مع الشاعرة المتألقة هيلانة حين يتجاذبان أطراف العشق ويجرفهما تياره، إنما يحلّقان فوق الشخصانية، ليبلغ عشقهما ذروته في أعلى تجلّياته، منصبّاً على العشيقة الحقيقية لنا جميعاً، سوريانا.

لقد تماهى المعشوق الذي هو عاشق في آن في المساجلة لدى الطرفين مع الوطن سورية. ولم تتحرّج الشاعرة الرائعة عن الإفصاح عن مكنونات عشقها لسورية حيث خلصت إلى رسم صورتها قبل الأزمة وبعدها.

ولعلّ ولهها بلغ مداه في لحظة تظهر رقي المشاعر ودفئها في قولها: كيف استحالت مهجتي أمّاً رؤوماً . وأجادت الشاعرة حين أشركت الطبيعة في لحظات غرامها ومشاعرها، فتخال الحمام يشدو والأغصان تتمايل، والمطر يهمي والنجمات تتفتّق.

وبلغت ريشتها الروعة في رسم صورة حسّية للحظات الانشراح عشقاً حيث تتعالى ضحكات المتيمين على أنغام النشوة التي بلغتها الروح. ولفتني الرقيّ في اصطفافات الوحدات الصغرى ليصل حدّ الارتحال في المشاعر إلى حنوّ الأيام الخوالي، الله يا ذاك الزمان ، قبل أن يصيب وطننا داء الإرهاب. وبعبارة مباشرة تبيّن فعل الإرهاب ودعواته الطائفية المقيتة اليوم باعد بيننا الأغراب .

ولأنّ الشاعرة امتلكت أدواتها الفنّية فهي تبرع في استنباط الانزياحات التي تترك مرتسمات معبّرة وموحية عن سيلانات الحالة الشعورية، والصورة المراد رسمها الإرهاب. صدأ من الليل، ضياع الرؤية، ليل عميّ، فرح العاشقين، سنابل ذهبية، عودة الحياة من تحت الرماد، عشتار البهيّة، إلخ . ويتّضح جلياً، تبحّرها في اللغة واشتقاقاتها، فهي استخدمت تستعصر، تستنبط التي تفيد في بعض معانيها، طلب المساعدة لإتمام الفعل. وكأني بها تشير إلى استعانة الإرهاب بأطراف عدّة لإكمال جرائمه.

لقد أبدعت الريشة الفنية لشاعرتنا هيلانة في رسم لوحات محبّبة صبغتها بألوان مشاعرها ورؤاها الشعرية وتموسقت الحروف مع الحالة الشعورية في تواشج يشي بقدرة فنية متفردة الحمام شدا، النجوم تتفتّق، إلخ . فبدت الشاعرة في المساجلة قامة شعرية بحجم وطن، ملوّحة بالراية السورية معتمدة المجاهرة بما يضطرم في روحها من كراهية للإرهاب وحزن لما وقع، متماهية مع الكينونة السورية فاصطخابات الواقع عششت في مستوطنات عقلها وتخمرت في خوابي عالمها الشعري لتعيد صوغها لوحات تزرع البهجة في النفس. وبذا، تتحلّى صوَرها الشعرية بغموض شفاف يحمل رمح الدهشة ويصمي به الروح، من دون أن يتوه المتلقي في سراديب البحث المضني عن مرتسمات لوحات سريالية ذات خطوط ضبابية. أيّ لحظات جمالية مترعة بنشيد الروح تفيض منك أيها النصّ السنفوني؟ وأيّ نسيج يؤلف فتنة المعنى حمل رداؤك، أيتها الهيلانة السورية؟أي شغف يعتمل في ذاتك المبدعة؟ لقد كان بوحك موحياً ترك لنا آفاق التصوّر وحدس التأويل الممتع فأسبغ دهشة على أرواحنا وهي تحلق في عوالم سحرية. والناصع الناصع، أن بوحك هذا هو خطاب إبداعيّ استبطن شكل مغامرة ظل الوعي حارساً لها وكيف لا والشعراء وأنت منهم هم سدنة الوطن الحقيقيون يحملون شرف الحرف السامي. هذه هي سوريانا هذا هو حورس. العقل السوري المبدع. لكما أيها المبدعان حسن سمعون. الشلال السوري المتدفق وهيلانة عطا الله النبع الشعري الصافي والقامة السامقة. لكما يا من تعمّقان نهر هذا الفنّ الراقي «المساجلات» لكما معاً أنحني.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى