رواية «ترانيم الغواية» لليلى الأطرش تكمل«رباعيّة فلسطين»
تستكمل رواية «ترانيم الغواية» الصادرة حديثاً في »منشورات ضفاف»، ما يمكن تسميته «رباعية فلسطين» في مسيرة ليلى الأطرش الروائية، إذ سبقتها روايات «وتشرق غربا» و»امرأة للفصول الخمسة» و»رغبات ذاك الخريف»، وتغطي الرباعية عدة مراحل زمنية وتشكل نسيجاً إبداعياً لحيوات نساء ورجال فلسطينيين في مواجهة قهر الاحتلال وعدوانه وإجرامه، سواء العثماني أو البريطاني أو «الإسرائيلي»، والضغوط الاجتماعية والفكرية والسياسية، من دون أن تفقد قدرتها على الصمود والعطاء.
قدمت الأطرش خلال مسيرتها الروائية ثمانية أعمال ترجم بعضها إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والكورية والألمانية، وهي إعلامية مارست العمل الإعلامي المكتوب والمقروء والمرئي في التحرير والتحقيقات والكتابة الصحافية، واختارها تقرير التنمية الإنسانية العربية الرابع حول المرأة، الصادر عن الأمم المتحدة، ضمن قلة من الكاتبات العربيات اللواتي تركت كتاباتهن أثراً واضحاً في مجتمعاتهن.
تقول الأطرش: «في رواية «ترانيم الغواية» يكتمل مشروع كتابة حياة الفلسطينيين في مراحل زمنية مختلفة، وهو يمثل جزءاً أساسياً من مسيرتي الأدبية التي بدأتها عام 1987 برواية «وتشرق غرباً» عن قصة حب بين مناضل فلسطيني مسلم وفتاة مسيحية، وهي حكاية امرأة فلسطينية عادية رومانسية في ظروفها الاجتماعية والسياسية والفكرية، في الفترة اللاحقة لنكبة عام 1948»، وتعتبر أن هذا المشروع اكتمل «زمنياً» بفترة نهاية الحكم العثماني، ثم الانتداب البريطاني لفلسطين مع رواية «ترانيم الغواية»، وحكاية البشر في مدينة القدس في زمن التحولات الكبرى والتقلبات السياسية العاصفة وما تبعها من تغير اجتماعي وفكري بل وحضاري قبل أن يضيع الجزء الجديد منها ثم البلدة القديمة. وهي رواية الصراع الأزلي بين المقدس والإنساني، صراع الأقوام والطوائف والعائلات في مدينة ولدت مقدسة، فضلاً عن صداقات النساء، وهي رواية العام من خلال الخاص بقصة حب عاصفة.
وتعتمد الكاتبة في سردها على تعدّد الأصوات والضمائر والمذكرات الشخصية والوثائق السرية والصور والأمكنة واختلاط الأزمنة. قصص قصيرة تؤلف في مجموعها حكاية العشق المحرّم في المدينة المقدسة. وتلفت الكاتبة إلى أنه في مجمل مشروعها الروائي برزت المرأة ضمن الظروف المفروضة على الإنسان العربي، الصراعات والحروب على أوطاننا بحجج مختلفة، والضحية الأولى هي المرأة ومكتسباتها، أيّاً تكن مكانتها الاجتماعية والثقافية. وتعتقد أن رواياتها رصدت حياة ومشاعر الرجل والمرأة في خطين متوازيين، إذ تؤمن بالنسوية الاجتماعية التي تطالب بتحرر الرجل والمرأة في خطين متوازيين، والراهن العربي يؤكد على مثل هذه الرؤية وضرورة تحرير عقل الرجل العربي لتتحرّر المرأة.
في عناوين روايات الأطرش قاسم مشترك يتمثل في الغربة والقلق الوجودي، وحول العلاقة بينهما ومجريات الأمور على الساحة العربية تتساءل الكاتبة: «ومن لا يعيش القلق ويشغله الوجود؟ ويرى العربي أحلامه الكبرى في أمة وقومية تتهاوى أمام انقسامات إقليمية ضيقة وصراعات عرقية وطائفية وهويات مهددة، في غياب شبه جمعي للعقل العربي، وسيطرة شذوذ ديني أشبه بهجمة التتار على المنجز التنويري كله». وتوضح أن مستويات اللغة في أعمالها تختلف تبعاً لتنوع الشخوص، فلكلّ منها منطقها ولغتها، في رأيها، ما يتلاءم مع ظروفها وثقافتها وتنامي وعيها. فلا يمكن أن يتحدث إنسان عادي بلغة المثقف وإلاّ بدا خارجاً على سياق ذاته وربما كان الوصول إلى لغة حوار تطابق تكوين الشخصية ولا تبدو نشازاً، أصعب وأكثر استغراقاً للوقت من كتابة الرواية نفسها، خاصة إذا تعددت المستويات الفكرية والثقافية لأبطال الرواية. وتلفت إلى أن اللغة الشاعرية في رواياتها هي لغة الراوي العليم، أو الشخصية المثقفة، مؤكدة أنها لغتها المفضلة وتمثل أسلوبها ورؤيتها وفكرها، فالعربية خصبة في اشتقاقها اللغوي ومفرداتها وبلاغة صورها الفنية والحسية، ما يتيح للكاتب أن يتجلى في تصوير المشاعر والوصف، من دون أن يكون شاعراً بالضرورة.
حول نظرتها إلى إبداع الكاتبات العربيات وأسباب تراجع عطائهن في السنوات الأخيرة، تقول ليلى الأطرش: «لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي تراجع عطاء الكاتبات، فليست لدي إحصائيات. لكن الواضح أن إنتاج الأدباء عامة في فترة ما سمي بـ«الربيع العربي» قليل. يحتاج الروائي إلى هضم الحدث ليكتب عنه. الرواية خلق لعالم مواز للمعاش، أي أن الروائي يتخيّل عالماً آخر معتمداً على حوادث الواقع، لكن تلاحق الحوادث السياسة الراهنة وتسارعها وقوة تأثيرها، تستهلك الوقت وتمنع التأمل، فلو ابتعدت يوماً عن الأخبار صرت خارج الحدث، وهذا استهلاك للوقت والتفكير معاً».
تؤكد الأطرش أن المشهد الثقافي وتفاعلاته تمثل انعكاساً للأحوال العربية، تشرذماً ويأساً من هجمة التطرف المسلح والتكفير والرفض وإحساس المثقف بالخذلان من فشله في تحقيق تأثير عميق في مجتمعاته، ثم استبدال دوره بـ»مفكرين ومحللين وخبراء» ينتقلون بين الفضائيات، الموجّهة بحسب سياسة مالكها، أو التي تنشر الفكر المتطرف والانقسام الديني، حتى بين الملة الواحدة، وما زال بعضها يقدم وجبات سياسية مباشرة تخلو من المعرفة والوعي بتأثير ما يقال فيها. تضيف: «إن مواجهة الوسط الثقافي العربي، التنويري والليبرالي وأحزاب اليسار، حقيقة ضآلة تأثيرهم المجتمعي، وانحسار دورهم في النخب الضئيلة، تسبّبت بالخيبة والخذلان ومراجعة الحسابات، فاليسار العربي وحركات التقدم فشلت في مدّ جسورها إلى القواعد الشعبية، ثم عللت فشلها بنبل الفكرة وسوء التطبيق. والسؤال: ما قيمة أي فكر إن لم يجد قاعدة شعبية واسعة تؤمن به، وبتضافر جميع الجهود؟ ومن دون أن أغفل ما جابهه أصحاب الفكر من محاربة السلطات العربية أو التدجين مستغلة أوضاعهم الاقتصادية».
ترى الأطرش أن إيقاف نزيف الخراب الذي يجتاح العالم العربي يستلزم من المثقف والمسؤولين عن الثقافة استغلال وسائط الاتصال الحديثة لنشر الأفكار التنويرية والتقدمية، وتخلي المثقف عن سلبيته وخوفه وعن رقيبه الذاتي، أمام هذا الموج العاتي من الظلامية والعنف والتكفير واحتــكار الحقيقة. وتوضح: «تستطيع الفنون مجتمعة إحداث التغيير، خاصة ذات التماس المباشر مع الناس المسرح والسينما والتلفزيون والندوات الفكرية والدينية التنويرية، والمعارض والروايات والقصائد والبرامج الثقافية غير التقليدية التي تبرز سير المفكرين والعلماء وأدوارهم وما تعرضوا له من قمع عبر العصور، ثم إحياء المطالعة بمشاريع كبيرة مثل «القراءة للجميع، أو مكتبة في كل بيت» في دول العالم العربي، وطباعة الكتب التنويرية، وبيعها للعامة بسعر رمزي جداً، على أن تتبنى وزارات الثقافة والمؤسسات الخاصة والبنوك هذه المشاريع، وأن يتخلى القائمون عليها عن المجاملة والشللية في اختيار الكتب.ثم المطالبة بإعادة تدريس الفلسفة في المناهج المدرسية والجامعات العربية، فهي إعمال للفكر. وأعتقد أن الذائقة العربية العامة على استعداد لأمر كهذا، إذ أدرك الناس هول التطرف، وقاسوا من الإرهاب والتكفير والعنف».