الروائية منى الشرافي: الخيال هو الذي يدفع الأديب إلى التحليق في سماء وفضاء لا حدود لهما

حاورتها: رنا صادق

تملك موهبة العبارة والكلمة التي تحمل في طيّاتها رسالة أدبية اجتماعية، أفكار ساحبة في الأفق لا حدود، تترك صدى في قلوب القرّاء، وتسعى إلى إضفاء جزء منها ولو بسيط على القارئ. الكتابة بالنسبة إليها حياة. راحتها تأخذها إلى عوالم الخيال.

الكاتبة والناقدة منى الشرافي تيّم فلسطينية الأصل والجذور، أردنية الجذع والفروع، لبنانية الثمر والزهور كما تعرّف عن نفسها. طموحة إلى أبعد الحدود. تكره الأطر والحدود، وتعشق الحياة والناس. حائزة على دبلوم في هندسة الديكور، ودبلوم في إدارة الأعمال، وليسانس في الأدب العربي، ودبلوم دراسات عليا وماجستير في اللغة العربية وآدابها تخصّص نقد أدبي واجتماعي.

الرواية هي ترجمة لما يدور في أعماق الحياة، تنبع من الواقع الإنساني لأنها جزء لا يتجزأ منه. وهي رسالة تحمل التعبير الجميل، والجملة النافعة المؤثرة، والمعنى الجليل، والهدف النبيل والمغزى العظيم، والمثل الصالح، والحكمة البليغة. هدفها إضاءة على السلبية في سبيل الإيجابية وإضاءة على الإيجابية لتكون حافزاً ومثالاً يُقتدى به، تعبّر عن مشاعر وأحاسيس كاتبها، كما تعبّر عن آمال المجتمع وتطلعاته وأحلامه، بحسب رأي الكاتبة. وترى أن ذروة الرواية الإبداعية هي حين يعالج الكاتب قضايا مجتمعه في إطار روائيّ ممتع ومشوّق.

لا هوية للإبداع، فهو يتجسّد حين يتمكّن الكاتب أيّاً كان من أن يبثّ حروفه معنى الحياة. حين ينبض الحرف مع نبض القلب فيسيران معاً بالتوازي. حين يحرك النص في المقلة دمعة. حين يشعر القارئ أن الكاتب عبّر عنه وعمّا يدور في مكنونات نفسه. حين يعالج الكاتب قضية خطيرة تحتاج إلى كتب لتغطيتها فيختزلها في سطور جزلة المعنى غنية الصورة، عميقة الأبعاد.

أصدرت ضيفتنا أربع روايات، الأولى اجتماعية بعنوان «وجوه في مرايا متكسّرة»، والثانية، سياسية بعنوان «مرايا إبليس»، والثالثة نفسية بعنوان «مشاعر مهاجرة»، أما الرابعة فتعليمية للناشئة بعنوان «العربيزي والجدّة وردة»، وهذه الرواية أُقرّت في معظم المدارس الخاصة والرسمية في لبنان، كما أقرّتها وزارة التربية والتعليم في الأردن.

وللكاتبة كتابان في الوجدانيات: الأول بعنوان «حروف من نور»، والثاني بعنوان: «كالمنى اسمي». وكتابان في النقد الأدبي الأول «أدب مي زيادة في مرايا النقد»، والثاني بعنوان «الجسد في مرايا الذاكرة»، الفن الروائي في ثلاثية أحلام مستغانمي، دراسة تحليلية نقدية .

تشير دراستها للنقد الأدبي أنّه أفادها كثيراً، فالنقد موضوع شائك وذو إشكالية واسعة الأفق، يحتاج إلى التعمّق في النصوص في مناخ جدلي قد يكون متناقضاً، وقد يتراوح ما بين القوة وبين الضعف أو بين تضارب الأحكام، وبين تداخل الغيرية مع الذاتية. والناقد لا يكون ناقداً إلا إذا كان ذا ثقافة واسعة، وذوق أدبيّ رفيع، وحسّ نقديّ متميّز، إضافة إلى الموهبة الفطرية، لذلك فهو حين يكتب تكون كل هذه المعايير نصب عينيه، ومن هنا لا بدّ أن يكون عمله راقياً، وإضافة للأدب العربي. وليس للأديب الذي يملك قماشة الكلمة والأدب هوية محددة، فهو قادر أن يصول ويجول في كل الاتجاهات الأدبية، ويعبّر عن كل ما يدور في خاطره ومن حوله، أو كل ما يحرّك أحاسيسه ومشاعره.

الكاتبة منى الشرافي لا تعتبر نفسها شاعرة، بل تسجّل وجدانياتت وتترجم مشاعرها ومشاعر الآخرين حين يصلها صدقها. أما النقد الأدبي، فهو ساحتها التي تتحرّك فيها بحرية، وخصوصاً حين تتمكن من الغوص في ثنايا النصّ الذي تقرأه، وغالباً ما يكون النصّ هو المحفّز للنقد.

«مرايا إبليس» رواية سياسيّة بامتياز. جريئة الطرح والتصوّر وبعد الرؤيا بلهجة ساخرة، والراوي فيها إبليس، موضوعها 11 أيلول الذي حوّل العرب إلى إرهابيين، وهي في حقيقتها تحالف إبليس مع الصهاينة وجورج بوش تحت غطاء بن لادن الذي سهّل على الأميركيين مشروع الحرب، فهم من سهلوا لتنظيم بن لادن المشروع وأتمّوه وأعلنوا علينا الحرب. شخوص الرواية تجسدوا في صورة رباعيّ الشر «جونز» حاكم مملكة الشمس جورج بوش ، وحليفه «شايلوك» ممثل الصهاينة ، «علي بابا» بن لادن ، وعلى رأسهم بطل الرواية إبليس ، الذين اتفقوا على وضع العالم تحت خدعة كبرى عنوانها «الحرب على الإرهاب» أما مبرّراتها فهي «حقّ الدفاع عن النفس». وبالنسبة إلى شخوص الرواية الثانويين فلا بدّ أن يشعر القارئ بالترابط معهم من خلال تحريك عاطفته ووجدانه كما تذكر الشرافي.

تظهر الرواية بجلاء صور التقهقر العربي الذي مكّن أميركا والقوى الكبرى من الهيمنة على مقدرات الشعوب العربيّة والتحكم في مصيرها. إذ إنّ إبليس يقول في أحد المقاطع بلهجته الشيطانية الساخرة محاوراً «جونز»: «أنت يا جونز تتكلم عن موارد أقصى الأرض وكنوزها وكأنها ملكك وملك والدك، وتتكلم عن ثأرك من حجّاج وكأنه هو المعتدي على والدك جونز الأب، الذي ورّثك مرض الجنون والعظمة!».

رواية «وجوه في مرايا متكسرة» واقعية اجتماعية. تناولت المجتمع اللبناني بشكل خاص، والمجتمعات العربية بشكل عام بجوانبها السلبية والإيجابية التي عملت على ترجمتها والكشف عنها بأسلوبها الخاص، ثم أضافت إليها من خيالها ما أعطاها حلّة جريئة في عرضها أمام أنظار المجتمع. تناولت فيها الترابط الأُسريّ وأحكام المجتمع الاستباقية، مثل الجريمة، المخدّرات، الحبّ والعشق، الخيانة، الاغتصاب وتأثيراته الكارثيّة، اغتيال الحقّ، الوفاء، الطمع، والبطالة.

أما روايتها «مشاعر مهاجرة»، فتقول الشرافي عنها: هي نفسية شاعرية حالمة، ولكن بواقعية، فقد هربت بطلتها «ديانا» من واقعها إلى ذلك الحلم الذي رسمته في خيالها، الذي كان يسافر بها إلى عوالم جديدة، فكانت أسعد لحظاتها هي تلك التي كانت تحياها في عالمها الافتراضي، فتعود فيه طفلة تلهو بفرح الحياة، ولولا هجرتها المستمرة لهذا العالم الرائع النقي الذي صنعته لنفسها، لما تحملت ضغوط الحياة، فللزمن عندها فرادته وللوقت قدسيته، وللّحظة عظمتها، وللمسرات نكهتها، وللألم معنى. هو عالم يستمع بصبر إلى شكوى الحاضر وتأوّهات الماضي، واللجوء إلى فضاءات الخيال والتأمل، كان بالنسبة إلى «ديانا» نوعاً من العلاجات النفسية، فكونها طبيبة نفسية كانت تعلم أن الاستسلام للضغوطات المحيطة بنا على اختلافها من شأنه أن يضعف الطاقة ويقلل الثقة بالنفس، ويولّد الإحباط والخنوع. وسيتعرف قارئ الرواية إلى ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين مشروعية الحلم وبين زيف الوهم.

أما كتاب «أدب مي زيادة في مرايا النقد» فهو دراسة نقدية أكاديمية لأدب مي زيادة، نالت عليه الناقدة درجة الماجستير في النقد الأدبي والاجتماعي، فقد كان لميّ زيادة إنتاج أدبيّ وفير، متعدّد الأنواع والأغراض، ذو ظلال بعيدة المدى في دنيا الأدب، غنيّ بالمواضيع الكثيرة التي كان عصرها يموج بها. وقد اعتبرت مي، لغناها الفكري وعطائها الأدبي، إحدى شهيرات عصرها في الكتابة والنقد والخطابة، لما ما قدّمته للأدب العربي من أعمال أدبية قيّمة، في مجالات المقالة، والخطابة، والمحاضرة، والرسالة، والكتب النقديّة.

«الجسد في مرايا الذاكرة» كتاب عبارة عن دراسة أكاديمية تحليلية نقدية للفن الروائي في ثلاثية أحلام مستغانمي. توغلت الكاتبة في نصوص أحلام مستغانمي، وحلّلتها وشرحت بنيتها، ورسمت صورة موضوعية لفن هذه الكاتبة في ثلاثيتها وبيّنت مقوّماتها وأوضحت خصائصه، وهذه الدراسة في حقيقتها ما هي إلا مساهمة علمية خرجت بتقويم حقيقي لنصوص الثلاثية.

أما كتاباها «حروف من نور» و«كالمنى اسمي»، فهما عبارة عن تسجيل وجداني آثرت الشرافي على تسميته «الوجدانيات»، لقربه إلى نفسها. فكان «حروف من نور» رسالة من قلبها إلى قلوب القراء. و«كالمنى اسمي» دعوةً من أنثى الأحاسيس والمشاعر، تتسلّل من بين السطور كي ترسم لوحة عشقٍ تدغدغ أخيلة الوعد، فالحب لا يأتي مصادفة كما يدّعون، بل بحاجة إلى قرارٍ من أرواحٍ تغلي في عروقها الدماء، والكره لا يأتي مصادفةً كما يقولون، بل هو إحساسٌ باردٌ دفينٌ، يستوطنه البؤس، فيرتدي نظّارتهُ القاتمة، التي تحجب أشعَّةَ الشمس ووضح النهار.

تتكاثر الشخصيات في روايات الكاتبة، اذ يرجع ذلك بحسب اعتبارها إلى أن ليس بالضرورة أن تدور أحداث الرواية حول شخصية محورية واحدة كي تفيها حقها، بل ما يفي الشخصية المحورية حقها من وجهة نظر الكاتب، كيفية تعبيرها عن نفسها، ومقدرتها على التعامل مع الآخرين في محيطها، الأمر الذي من شأنه أن يمنحها القوة والتأثير والمساحة والحيوية والحرية، إضافة إلى تجنيب القارئ السأم والرتابة. لأن القارئ العربي يحبّ أن يبحث عن ذاته أو عن محيطه ومن يهمه أمرهم في كل ما يقرأه بشكل عام والرواية بشكل خاص.

والرواية بالنسبة إلى الشرافي هي رسالة إنسانية تنبع من المجتمع.. لأنه مادتها وتُهدى إليه، فهي انعكاس للحقيقة كي ترى فيها المجتمع من كافة مستوياته. ولذلك يجب أن تتعدد شخوصها التي يلعب بعضها أدواراً جوهرية وبعضها الآخر أدواراً ثانوية، خصوصاً حين تتداخل الأحداث وتحتدم، فتحيا تلك الشخوص الصراعات والمواجهات والمفاجآت والقلق والخوف والترقب والشوق والحب والوجد.

في سياق منفصل، ترى الشرافي أن نسبة تأثير الكلمة والعبارة تختلف وتتفاوت من شخص إلى آخر ولكن التعبير الصادق السلس يصل إلى الجميع. الخيال هو الذي يدفع الأديب إلى التحليق في سماء وفضاء لا حدود لهما. إضافة إلى رهافة الحسّ، والذوق الرفيع الذي يجعل الكاتب يرسم كلماته ويلوّنها بالشكل الذي يريده. كما أنها ضدّ استخدام المصطلحات الصعبة أو الرموز المعقدة في الرواية. فالكاتب حين يكتب يكتب للجميع لا لفئة معينة كي يكون قادراً على مخاطبة كل المستويات.

أما حول وضع المرأة في العالم العربي إجملالاً أشارت إلى أنه رغم كل المراتب والمراكز والدرجات العلمية والإبداعية التي وصلت إليها المرأة العربية، إلا أننا نجد أن الكثيرات قد تمادين في اقتناء مفهوم الحرية الخاطئ الذي لا يمنحهن القيمة والمكانة المنشودة التي تسعين للوصول إليها وإثباتها. فالصورة السلبية السائدة اليوم عند الكثيرين، أن النساء العربيات قد انصرفن عن تطوير أنفسهن، وشغلن أوقاتهن بالمناسبات الاجتماعية، والتجوّل في الأسواق والبحث عن آخر صرعات الموضة، والتباهي بارتداء الأزياء ذات الماركات العالمية التي تميّزها أثمانها الباهظة. إضافة إلى عمليات التجميل التي أفقدت الكثيرات ملامحهن وخصوصياتهن، حتى أصبحن وكأنهن صور مكرّرة من بعضهن. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أكثر الصور تشويهاً للمرأة وامتهاناً لكرامتها وكيانها، هي استخدام جسدها للإعلانات التجارية كسلعة استهلاكية مبتذلة ورخيصة. وكل هذا يشير إلى تنازل المرأة عن دورها الجوهري في المجتمع، وآثرت التمسك بالقشور البالية. على المرأة أن تثبت مقدرتها على إحداث التغيير في جميع النواحي الحياتية، وحرصها الشديد على ملاحقة جميع التطورات التي يواجهها مجتمعها على كل الصعد والمستويات.

يظهر للقارئ نفحة فلسفية لدى الروائية منى الشرافي تيم، وإليكم مقطعاً من روايتها «وجوه في مرايا متكسّرة»، نتبع فلسفة الكاتبة بسلاسة:

«انسحبت ديانا بهدوء، وخاطبت ذاتها بضجيج الصمت النابع من غليان وجدانها، وهي تتساءل: هل من الممكن أن تتقابل وجهاً لوجه مع أحلامها؟ أن تتبين ملامح خيالها؟ وتتذوق ثمرة مشاعر غرستها في ذاكرتها وصنعها رسم خيالها؟ أم أنّ كلّ ما حصل الآن، ما هو إلا عملية اختلاق وهميّة، أفرزتها رغبة مقدسة ملحّة مغروسة في كيانها، لتعرّفها إلى ما هو أبعد من الحب، وأعمق من القدر، وأقوى من الغيب الذي آمنت به؟ مشاعر لا حصر لها، اعتملت داخلها، وهي في مواجهة مع مرآتها، وفي مواجهة أكبر مع فلسفات الحياة وأبعاد القدر العبثية، التي جرّدت الأشياء من منطقها. وهي التي التقطت، منذ زمن في ذهنها، للواقع صوراً جامدة، ذابت على ضفافه العاطفة الحيّة، وتكسرت على منحنياته الإرادة، وتاه في نتوءاته الأمل».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى