حَكَمَهما التاريخ والجغرافيا، «ففشلت» السياسة

روزانا رمّال

الحديث عن التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري في ما يتعلّق بمكافحة الإرهاب بمناسبة عيدَيْ الجيشين الذي يصادف كلّ عام في التاريخ نفسه «الأول من آب». هو محطة للاستيضاح عن الكثير من الملفات الملتبسة وفرصة للاعتراف بما هو أجدر على البحث بصلب علم السياسة والعناصر المؤثرة فيها.

لم يكن صنع إرادة أن يكون عيد الجيش في يوم واحد عيد الجيش اللبناني والسوري في النهار نفسه، وأن تكون ذكرى تضحيات الجيشين منسجمة بهذه الطريقة التي تأخذ نحو أسئلة تشاطر المعارك أو المعتدي نفسه أو الغازي نفسه بالحد الأدنى. وهذا التناغم يؤكد أن أفعل العناصر في العلوم السياسية المطلوب معاينتها متوفرة بشكل هام في ما يتعلّق بعنصرَي التاريخ والجغرافيا. وهو الأمر الذي يأخذ نحو تبرير مفاهيم عديدة عايشها الشعب في لبنان وسورية كوحدة المسار والمصير مثلاً.

لعبت الجغرافيا السياسية دوراً أساسياً في كتابة تاريخ الدولة السورية والدولة اللبنانية أيضاً، وعيد الجيشين يؤكد على هذا التلاحم بين الدولتين الذي لا ترسمه حكومات بل ما هو أقوى منها بكثير كعوامل تعود لتقاسم المصير وصد هجمات الأعداء والبحث في منافذ التجارة ومقاومة المحتلين من الأتراك حتى الفرنسيين إلى الإسرائيليين، حيث احتلت تل أبيب أجزاء من أراضي لبنان وسورية وصولاً الى هذا النهار الذي سيطرت فيه المجموعات التكفيرية الإرهابية من داعش والنصرة وتنظيمات مشابهة على أجزاء واسعة جداً من سورية وأجزاء من جرود لبنان وهددت باقي أراضيه لسنوات متتالية منذ اندلاع الازمة السورية عام 2011.

قتال حزب الله في سورية الذي لم يحصد إجماعاً محلياً، خصوصاً في بداياته برّره أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله بأنه يأتي كعمل استباقي لمنع وصول الإرهابيين إلى لبنان أولاً، ومنع سقوط النظام السوري ثانياً، الذي يُعتبر صاحب الفضل الأساسي في تمرير السلاح الى لبنان ليصل الى المقاومة لتقاتل به «اسرائيل». بالتالي فإن أي قرار من هذا النوع بالنسبة لحزب الله لم يكن لينطلق لولا حسابات من نوع اقتسام المصير نفسه. وهو الأمر الذي فرضه التاريخ على الدولتين كأمر واقع ولو كابرت الأطراف السياسية فيهما، وبغضّ النظر هنا عن أي حساب سياسي أكان مع أو ضد نظام ما.

هذا التاريخ ووحدة المصير إذاً ليس حالة متحرّكة أو مطاطية يمكن التحكّم فيها. وهو الأمر الذي عملت عليه بعض مساعي الدول الكبرى في فصل المسار والمصير بين لبنان وسورية، وإذا كان لا بدّ من استذكار مرحلة انعدام التمثيل الدبلوماسي بين الدولين، فإن هذا سيعيد إلى الأذهان ما لم يكن ممكناً تحقيقه عند الشعب في لبنان وسورية في فترة سياسية محددة، حتى أنّ البعض لم يقتنع حتى اللحظة بضرورة التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين، رغم أنه ضرورة سياسية وقانونية مطلقة تندرج ضمن التمثيل الصحي بين دول تتمتع بالسيادة، لكن هذا فقط للتأكيد على مسألة التناغم بين الدولتين، وهنا بقيت محاولات الدول المهتمّة بالنزاع السوري من دون مستوى التوقّع، خصوصاً بعد أن طُلب من لبنان وحكومته التزام النأي بالنفس لسنوات في مسعى لإنجاح هذا الفصل دون جدوى.

يستذكر اللبنانيون بعيد الجيش اللبناني معركة نهر البارد، حيث خاض جيشُهم معارك عنيفة ضد الإرهاب كان الجيش السوري حينها خزّان العتاد والسلاح الذي ساعد فيه اللبنانيين للتخلص ممن تواروا عن الأنظار بين اللاجئين الفلسطينيين ومَن أخذوا مصير مخيم نهر البارد نحو تلك النهاية.

لم يكن ممكناً التحرك في تلك المحطة من دون هذا الإسناد من سورية. وهو الأمر نفسه الذي لم يتغير اليوم لكن الظروف السياسية تغيّرت بالتأكيد.

حاجة لبنان إلى سورية، والعكس، في مجال مكافحة الارهاب باتت اكثر وضوحاً اليوم بعد أن ساهم الجيش السوري بالتنسيق مع الجيش اللبناني على ما تؤكده مصادر سياسية لـ»البناء» ولو كابرت القوى المحلية ورفضت الاعتراف بهذه الحقيقة التي كانت ولا تزال سيدة المشهد في أعالي الجرود اللبنانية والحدود الشمالية، الأمر نفسه الذي ينطبق على سورية في مجال الحاجة لتعاون لبنان أمنياً معها. فهي اشتكت منذ بداية الأزمة من انتقال المسلحين عبر معابر لبنان. وهو الأمر الذي يؤكد حاجتها إلى تنسيق عالي المستوى غير خاضع للحسابات السياسية، ومن القوى والأجهزة الأمنية اللبنانية كلها وليس فقط الجيش اللبناني بالتأكيد. وهذا يقين السوريين نفسه بأن المصير الذي يحيط بالوضع الأمني السوري ومخاطره وتحدياته هو نفسه الذي ينتظر لبنان واللبنانيين.

مسألة أساسية أيضاً لا بدّ من الالتفات إليها تتعلّق بخطر كبير، في ما لو كان قد وقع أو طال أحد جيشَيْ الدولتين تفكّك وانشقاق، لأن تفكّك الجيش السوري سيؤدي إلى تفكك الجيش اللبناني حكماً. وهذا الأمر كان قد هدّد الجيش السوري بداية الأزمة عندما انشقّ جزء منه قبل أن يتماسك الجزء الأكبر المتبقي في وقت كان يتعرّض الجيش اللبناني لتهديدات من مجموعات مسلحة تكفيرية وصلت لحد تفجير نقاط انتشاره في لبنان، ضمن خطة تفكيك الجيوش العربية التي طاولت الجيش العراقي والليبي والسوري ومحاولات خلخلة الجيش المصري واللبناني في أي لحظة تتاح فيها الظروف.

ستبقى وحدة الجيشين ومسار ومصير الشعب في الدولتين محكومة بعوامل التاريخ والجغرافيا التي تسقط أمامها الظروف والاعتبارات السياسية لوقت طويل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى