لبنان هدف لسياسات أميركية وخليجية شرسة
د. وفيق إبراهيم
باغت حزب الله المتربّصين به بسرعة انتصاراته على «جبهة النصرة» الإرهابية في أعالي بلدة عرسال. كانوا يعتقدون أنّ مثل هذه المعركة مرشّحة لاستنزافه وتعطيل حركته الإقليمية بجذبه إلى أتون فتنة مذهبية في الداخل اللبناني.
لكنّ طموحاتهم ذهبت أدراج الرياح، واكتسح الحزب الجرود برشاقة المحترفين، مُجهِضاً حركة تسعير الداخل واستحضار الخارج بالعويل، فبدت القوى اللبنانية الموالية للخليج كمن أصيب بهراوة على أمّ رأسه، عطّلت قدرته على الصياح. فهل تستسلم هذه القوى وداعموها لانتصار الجرود الذي جرّدها من أكبر داعم إرهابي كانت تستثمره وتدعمه لتوازن به مع إمكانات المقاومة؟
صحيح أنّ المعركة مع «النصرة» لها تداعيات داخلية، لكنّ أبعادها العربية والإقليمية والدولية أكثر اتّساعاً، لأنّها جزء من معركة محور المقاومة الممتدّ من اليمن والعراق وسورية ولبنان ضدّ الإرهاب وداعميه.
وللإشارة، فإنّ السياسة الأميركية كانت تعمل بصمت لإضفاء شرعيّة على «النصرة» بعد تغيير اسمها وبرنامج عملها، وذلك بهدف ضخّ دماء جديدة في الأزمة السوريّة لإطالة أمدها.
من الصعب إذن توقّع تمرير انتصار عرسال من دون محاولة إجهاضه من قِبل الطرفين الأميركي والخليجي، اللذين قد يستعينان في مراحل متقدّمة بالاحتياط «الإسرائيلي».
وبالمنطق، فإنّ منظّمات الإرهاب تتعرّض حالياً لانتكاسات تشارف الهزيمة غير المعلنة، ما يعني أنّ على السياسات الأميركية والخليجية البحث عن آليات إضافية حاسمة تتصدّى لاندفاعة حزب الله من خلال «القضاء» عليه في الداخل اللبناني. وبموجب تقييمات أميركية خليجية، فإنّ حزب الله هو الذي يغطّي «النفوذ الإيراني» بانتمائه العربي وانتصاراته التي أصبحت جاذباً لجمهور كبير في مشرق العرب ومغربه وبهذه الصفة تمكّن أيضاً من جذب مقاتلين عرب ومسلمين أصبحوا يستلهمون تجاربه المظفّرة في قتال «إسرائيل» والإرهاب على السواء.
هذا التحليل هو الذي دفع الطرفين الأميركي والخليجي إلى وضع خطة جديدة تقوم على محاربة حزب الله بالوسائل كلّها في لبنان. وهي ليست بخطة جديدة، وسبق أن جرى استعمالها في إطار عقوبات استهدفت ما أسمته «نشاطات اقتصادية لحزب الله في لبنان والعالم»، لكنّها لم تؤدِّ إلى ما ذهبت إليه.
لذلك وسّع المخطّطان استهدافاتهما من عقوبات على الحزب حصرياً إلى عقوبات كامل لبنان بطوائفه ومؤسساته والمقيمين فيه… والمهاجرين أيضاً!
ما هي هذه الخطة؟ عقوبات اقتصادية تستهدف علاقة لبنان الاقتصادي والمصرفي بالعالمين العربي والغربي، ما يؤدّي إلى تراجعات اقتصادية خطيرة يحمّل الذين تمّ عقابهم مسؤوليّتها لحزب الله. هذا إلى جانب «عقوبات مصرفية» تعرقل عمل بعض البنوك لتصيب آنفاً الأعمال المصرفية بكاملها.
وهناك اتّجاه لمقاطعة الدولة اللبنانية باعتبار أنّ حزب الله يشارك في مؤسساتها السياسية على مستوى مجلس النوّاب والوزراء. أما الجانب الذي لا يقلّ خطورة. فالاتجاه إلى التعرّض للشباب اللبناني العامل في الخليج وأفريقيا، وعرقلته ليغادر إلى لبنان فيحمّل المسؤولية لحزب الله، كما يرجو المخطّطون.
ترمي هذه الإجراءات إلى تفجير العلاقة بين حزب الله والدولة اللبنانية وفئاتها الطائفية، وصولاً إلى حدود إثارة الاضطراب داخل الطائفة الشيعية نفسها. الأمر الذي يؤدّي إلى إضعاف الحزب وإجهاض أدواره كلها في الداخل والإقليم… فهل هذا ممكن؟
هناك مؤشرات تردّدت على شكل همسات خليجية تحذّر من أخطار آتية على سلامة الدولة اللبنانية، وأبرزها خلية العبدلي الكويتية التي تعتبر نموذجاً للاتّهامات المفبركة بهدف النيل من حزب الله. فبعد اعتقال متّهمين، قالت الكويت إنّهم متورّطون بخلية العبدلي قرب الحدود الكويتية العراقية، وجرى ضبط أسلحة تكفي لتسليح كتيبة بكاملها. قام القضاء الكويتي بإطلاق سراح المتّهمين بقرينة البراءة المحتملة. ومثل هذا الإخراج لا يحدث عادةً في أيّ قضاء إلا إذا كان هناك يقين من براءتهم… وبعد سنتين أعاد القضاء الكويتي فتح الملفّ، وحُكم على المتّهمين بالسجن عشر سنوات وأكثر، مدّعياً أنّهم فرّوا بقوارب سريعة إلى إيران… وكأنّنا في فيلم هوليودي من صناعة المخابرات الأميركية.
فهل يمكن للأميركيين والخليجيين التورّط إلى هذا المدى؟ وهل يتحمّلون انفجار الكيان السياسي اللبناني في هذه المرحلة بالذات؟
هذه المخطّطات تؤدّي تلقائياً إلى تدمير الدولة اللبنانية وانخراطها في حروب الإقليم المتنوّعة من الحدود مع فلسطين إلى سورية، وصولاً إلى العراق… وهذا غير ممكن لسببين حزب الله وتحالفاته العربية والإقليمية والدولية، لن يسمحا بهذا التدمير، وعملهم سيتركّز على منع الانهيار بالدعم الكبير الاقتصادي والسياسي والعسكري، فيتحوّل لبنان من دولة يمتلك حزب الله فيها مكانة محترمة فيه، إلى دولة حزب الله بشكل كامل، وهذا يعني انهيار القوى السياسية اللبنانية الموالية للأميركيين والخليج وتحوّلها قوى موالية للمقاومة.
أمّا السبب الثاني، فيتعلّق بدور أوروبي خليجي يعرف أبعاد هذه الخطة على المكوّنات الطائفية اللبنانية، وتداعياتها على المكوّنات الاجتماعية لدول الخليج كلها. فهل تسعى واشنطن إلى جعل لبنان منطلق حروب عالمية واسعة النطاق؟
لذلك، فإنّ «نصر عرسال» ليس مقبولاً عند الأميركيين والخليجيين و»الإسرائيليين»، لكن من المتعذّر البناء عليه لتنفيذ خطة تفجّر «الشرق الأوسط» بكامله من دون أن يكون للمخطّطين قدرة على الاستفادة الحصرية. كما أنّ اللجوء إلى الخيار «الإسرائيلي» المتدحرج، لن يكون خطوة حكيمة لأنّ حزب الله وتحالفاته قد لا يرتضون بمعارك محدودة، ويذهبون في اتجاه تفجير حروب كبيرة، خصوصاً أنّ الموازنات العسكرية أصبحت لمصلحتهم.
لذلك تتّجه القوى الدولية كلّها إلى الفرار من التفجير الكبير في مرحلة تبدو العلاقات الدولية في أسوأ مراحلها… انهيار في العلاقات الروسية الأميركية، والعلاقات الأميركية مع الصين وكوريا الشمالية وإيران، ولا يحتاج إعلان الحرب إلا إلى إجراءات بسيطة.
هذه هي الأسباب التي تجعل الخطط الأميركية الخليجية كلّها فاشلة سلفاً، وغير قابلة لفرملة الدور المقاوم لحزب الله المطلوب لبنانياً وعربياً وإقليمياً، وتشجّع عليه روسيا والصين. والانتصارات المتتابعة في دول الصراع خير دليل على أنّ عصراً جديداً بدأ يتشكّل من فوّهات بنادق المقاومين من لبنان إلى… اليمن.