أن تكون ثائراً… هل هو اختيار؟

عدنان كنفاني

أن يكون الشهيد الأديب غسان كنفاني ثائراً، فهذا قدره، وقدر الفلسطينيين.

فالثورة ليست ممارسة نحبها أو لا نحبها، هي الحبل السريّ الذي يمدّنا بأمل البقاء، وهي طريقنا القسري كي نبقى، ونواصل، وننتصر…

لقد قام المخلصون من رجالات عكا بقدح الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة في حينه، وعندما وقف الحاكم العسكري الإنكليزي ليصدر الحكم بنفي والدي من مدينة عكا، ولد جيلٌ من الأطفال، وولد غسان.

لم يكن أمام غسان، والأجيال التي أطلّت إلى نور الحياة وسط هذه الأحداث، إلا أن يكونوا في أتون الثورة، ثوّاراً وليس من معادلات تبيح الاختيار.

كبُر جيل 1936، وكبر غسّان، تفتحت مداركه على واقع أليم، لم يستطع، كما لم يستطع ذلك الجيل بأكمله، أن يجدوا في تلك السن المبكّرة، ملامح أجوبة لأسئلة كثيرة.

كانت بريطانيا، «الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» منتدبة على فلسطين، وتمثّل السياسة الاستعمارية بامتياز في كثير من دول العالم، وكان من المفترض أن تحمل الأمانة الدولية لإدارة شؤون وسياسة واقتصاد وبناء وعسكرة فلسطين، لكنها «وهذه طباع متأصّلة في المستعمرين» خانت الأمانة، وتبنّت بقوة الوعد الذي قطعه وزير خارجيتها «بلفور» بإقامة «وطن لليهود» على أرض فلسطين، واتخذت خطوات عملية لتحقيق ذلك الوعد، فقد استولت «حكومة الانتداب البريطاني» على أراضي «الجفتلك»، وأراضي الأوقاف العامة، والأراضي التي صنّفتها الحكومة العثمانية على أنها أراضٍ أميرية، وتقدّر بعشرات الآلاف من الدونمات، وقدّمتها إلى اليهود من دون مقابل.

وأباحت الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بل شجعتها، وأصدرت قانوناً بمنح الجنسية الفلسطينية لكلّ يهودي يقيم سنتين في فلسطين، وغرامة مالية قدرها «جنيهين»، مما دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين من شتى بقاع الأرض.

وفي المقابل، كانت بريطانيا وهي تمثل «حكومة فلسطين» في ذلك الوقت، تحكم على كلّ عربي يدخل فلسطين بالسجن ثمّ بالطرد.

وقد سنّت «حكومة فلسطين» القوانين الظالمة والمرهقة على الفلسطينيين، بما في ذلك جباية ضرائب فاحشة، وكانت تصادر العقارات العربية لأقلّ سبب، وتقوم ببيعها أو إهدائها إلى اليهود، وكانت شركة «ألايكا» اليهودية هي الأنشط في هذا المجال بدعم بريطاني كامل.

كما سمحت بفتح مكاتب لـ»الوكالة اليهودية» التي تمثل يهود العالم في مدينة القدس، ناهيك عن الأحكام الجائرة التي كان القضاة الإنكليز يحكمون بها على الفلسطينيين لمجرّد الشبهة أحياناً، تنفيذاً للتعليمات التي تصدر عن «الوكالة اليهودية».

كان والدي رحمه الله كونه محامياً يرافع عن المتهمين العرب الذين يقدّمون إلى المحاكمات أمام المحاكم العسكرية المشكلة وفقاً لقانون الطوارئ، وحتى ساعة متأخرة يومياً، وكانت شرطة الجيش تقلّه «محروساً» إلى بيته، وذلك بسبب نظام منع التجوّل، وحدث أن اقتيد في مساء أحد تلك الأيام إلى المعتقل من دون ذكر الأسباب، وفي صباح اليوم التالي، عندما علم المعتقلون والموقوفون «الفلسطينيون» باعتقاله، أعلنوا إضراباًً، ورفضوا الذهاب إلى المحكمة مما دعا رئيس المحكمة «وهو إنكليزي طبعاً» إلى أن يستطلع الأسباب من جهات مسؤولة، كان الجواب مختصراً وحاسماً: الاعتقال تمّ بناء على طلب «الوكالة اليهودية»! ولأنّ هذا المحامي، والدي، «يتحامل» على اليهود خلال المرافعات… وقد تعجّب القاضي من ذلك، وقال: أليس من حقه أن يرافع عن موكليه بحدود القانون؟ وكان أن استُبدِل بقاضٍ غيره بسرعة ملفتة!

ومعلوم أنّ «الوكالة اليهودية» تسلّمت السلطة بعد الإعلان عن انتهاء الانتداب.

إنّ ذلك كله ليس معلومات جديدة أو سريّة، لكنني أتيت على ذكرها لأدلّل على طبيعة الظروف والبيئة التي جعلت من غسان، وجيل غسان ثوّاراً.

كان غسان يراقب كلّ شيء بصمت وذهول، وقبل أن يلامس ملاعب طفولته أُخرج من بلده ومن بيته مشرّداً لاجئاً، كلّ ما يعرّف عنه وعن حقه في هذه الحياة بطاقة حمراء، وحفنة طحين، وقطعة صابون!

كنت أرى والدي يبكي وهو يراقب الطاولة الصغيرة يحملها غسان، ويجلس إليها أمام مبنى المحكمة «في بناية العابد بدمشق» يكتب العرائض مقابل قروش يدسّها في يد أمه ليأكل الصغار… حتى عندما صار مدرّساً في مدرسة الأليانس» كان طفلاً.

وعندما سافر إلى الكويت ليبدأ الصراع «في ظروف صعبة جداً» مع الحياة، كان طفلاً، وحين بدأ المرض يأكل من حياته كلّ يوم قضمة كان طفلاً أيضاً.

إذا شئت أن تسمّي كلّ هذه الآلام، وكلّ هذا الشقاء طفولة! فهي طفولة غسان.

لقد رأى بيته في مدينة عكا وهو يغيب بلا عودة، وبرتقاله في يافا يسرق… رأى وطنه يغوص في الضياع، رأى المأساة، كلّ المأساة وعاشها بكلّ دقائقها ولحظاتها.

رأى العالم وهو يلهو على جراحنا، رأى الحكومات العربية وهي تضعنا على طاولة المزاد العلني، رأى وجوده وحياته رقماً في «شعبة الأجانب» في كلّ بلد يدخل إليه.

فهل كان أمامه أيّ مجال للاختيار؟

لقد كانت الثورة قدره، منحها قلبه وقلمه وفكره ووجدانه، واستطاعت الثورة بأصالتها المسكونة فيه أن تصل به إلى مصاف الكمال، حين تُوّج بالشهادة.

فهل لنا بعد ذلك كله إلا أن نكون ثواراً، وأن تكون الثورة قدرنا؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى