«إهدنيات»… نصّ لم يكتمل

اعتدال صادق شومان

عندما دعتني الصديقة سهى الصباغ لمرافقتها إلى بلدة إهدن لحضور مهرجان «إهدنيات»، بدعوة حملها الصديق المخرج والمنتج التلفزيوني وسام شاهين، تردّدت في البداية قليلاً، لأنّني لست من جماعة المهرجانات على كثرتها في لبنان، ولا من روّادها. إنّما الإغراء كان شديداً بالدعوة الطيّبة، أولاً للصحبة الرائعة مع سهى ووسام. وثانياً، الفرصة التي أتاحاها لي بالصعود إلى «قارة إهدن» التي لم تتسنّ لي زيارتها قط، رغم أنّ لي فيها أحبة وأصحاباً لطالما دعوني لزيارتها، ولطالما عاكستني الظروف.

واليوم، سنحت الفرصة ولن أفوّتها، وبالفعل بدأنا المشوار صعوداً، صعوداً، إلى حدود السماء، حتى ظننت أنّ وسام سيصل بنا إلى «القرنة السوداء» قبل أن يتوقف عند تلك الربوع العظيمة بجلالتها، فاكتشفت عندئذٍ ما فاتني من روعة المكان والناس المتوارين فرحاً في «الميدان الإهدني» الأشهر بين الميادين في ظلّ الشجرات العالية لأنها «من زمان» على حدّ وصف الشاعر عصام العبد الله لها.

فلا ريب أن كلّ زغرتاوي يعتبر إهدن مهبط الإلهام والمكان الأجمل في العالم، في أبعادها التاريخية والأثرية والروحية وتراثها السياسي الجلي.

وبعد جولة لم ترو غليلاً، في الربوع الإهدنية المنهمكة بالترتيبات والتحضيرات التنظيمية لمهرجانها الصيفي بكلّ هيئاتها المدنية التي نزلت إلى الأرض، بلدية، قوى أمن داخلي، وطبعاً إلى جانب مواكبة أمنية من الجيش اللبناني. وسط «كل هالعجقة»، تمكّنا بصعوبة تخطّي زحمة السير التي فرضتها المناسبة، وتوجهنا إلى المدرج الذي أُعِدّ خصّيصاً للمهرجان، وقد أشرفت على تنظيمه شبكة من الشابات والشباب بالزيّ الموحد الذي تميّزوا به، بما يشبه «الانضباط الحزبي»، وتمتعوا بكثير من الكياسة في التعامل مع الحشد الكبير، ليمرّ المهرجان على خير ومن دون تسجيل أيّ حادث يعكّر صفو المهرجان والمنظمين أو ضيوفهم، وهذا يدلّ عن حرص الهيئة المنظّمة على إنجاح المهرجان وتأمين كافة مطلباته التنظيمية، مراعية أدقّ التفاصيل، فوصل الجميع إلى أمكانهم بغير تزاحم على عادة المهرجانات الحاشدة.

في المسرح المكشوف على فضاء إهدن العالي، أُعلِن عن بدء مهرجان «إهدنيات» الدولي الذي أرادته إهدن لهذه السنة محطة تستعيد فيها روائع الفن السابع بين السينما، الموسيقى والمسرح.

وفي مشهدية عمل عليها وقدّمها الفنان اللبناني جورج خباز، وقاد الفنان الموهوب لبنان بعلبكي الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية المؤلفة من سبعين عازفاً عالمياً ولبنانياً يعزفون على آلات وترية ونفخية، وأعضاء فرقة «مشروع ليلى»، ليختزل العرض عدداً من الأعمال السينمائية الأجنبية في غالبيتها، على خلفية مشاهد من روائع الفنّ السابع من زمن رومنسية الأسود والأبيض.

والأفلام المفترض أنّ الفنان جورج خباز قد اختارها للعرض كونه المعدّ والمخرج، تنوّعت بين والخيال والواقع. ومن الأفلام اللبنانية اختار «سفر برلك»، «هلق لوين»، و«غدي»، وقد واكبت العرض السينوغرافي مؤثرات خارجية تمثل استعراضاً واقعياً لعدد من الفنانين، أبرزها مرور الفنان عبد الله حمصي «أسعد» بصوته المتهدّج حنيناً، فحملت إطلالته أثراً طيّباً في هذه الأمسية الإهدنية الرائعة بامتياز.

غير أنّه، على رغم أنّ جورج خبّاز صاغ افتتاح مهرجان إهدن بشغف شبابيّ استنهض في ذاكرتنا أطيافاً من زمن جميل بلا عودة، لكنه ترك عندنا عدداً من الأسئلة حول هذه الاستنسابية في اختيار الأفلام. فعلى سبيل المثال، لماذا لم ترصد ذاكرته فيلماً من روائع العصر الذهبي للسينما المصرية، خصوصاً أنّ بعض هذه الأفلام ما يعدّ من كلاسيكيات السينما المصرية، وفي هذه الأفلام نجوم حفروا أسماءهم عميقاً في ذاكرتنا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فيلم «غزل البنات»، أحد أهم الأفلام العربية، الذي تبوّأ المركز التاسع في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العربية، والذي يجتمع فيه أبرز نجوم تلك المرحلة كنجيب الريحاني أشهر الكوميديين في تاريخ الفنون المرئية العربية. ونجمة الأربعينات ليلى مراد، والمبدع أنور وجدي، مع عميد المسرح يوسف وهبي وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. خصوصاً أنّ المناسبة «موسيقى الأفلام». كما أنّ هناك فيلم «باب الحديد» كون المهرجان تذكر مخرجه يوسف شاهين بمرور سريع، أو فيلم «دعاء الكراون» الخالد. وماذا عن أفلام عبد الحليم وفريد الاطرش والصبوحة؟ تجاهل لم نجد له تفسيراً أو مبرّراً شافياً.

وأيضاً، لماذا لم يخصّ جورج خباز السيدة فيروز ولو بأغنية واحدة من أحد أفلامها؟ في حين تم اختيار ثلاث أغنيات من أفلام المخرجة نادين لبكي بصوت الفنانة تانيا صالح وأغنية من فيلم «غدي» أدّها جورج خباز شخصياً؟

أما في ما يخصّ النصّ الذي وضع توليفته جورج خباز، والذي أراده تعبيراً عن تاريخ لبنان من الزمن العثماني إلى زمن الحرب اللبنانية ونهايتها ونهوض لبنان، فقد بدا واضحاً أنه غير مكتمل، ونحن لا نتحدّث هنا عن جزئيات هذا التاريخ بل عن قضاياه الكبرى التي لم تُخفَ عن إهدن ورجالاتها ، فماذا عن العدوان «الإسرائيلي» واجتياحه لبنان، وماذا عن جرائمه التي هزّت وجدان العالم، وماذا عن انتصارات لبنان؟

ولكن، ومن باب حُسن النيّة، نعذرك جورج خباز، لأننا نحبك. قد يكون «الحق» على القدر الذي جعل جدّك يرحل قبل أن يكمل لك «الخبريّة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى