حين يطبق الكمين!

وليدة عنتابي

يقيم الورق صلاة الاستسقاء وينهمل الحبر فتياً دافقاً حاملاً بشائر الخصب والنماء، مطلقاً مزاميره الكونية في خصوصية نرجسه البازغ من تخوم التفرّد إلى فضاءات البديع.

إلى أين يأخذنا «كمين» طلال مرتضى؟

ذلك الفتى المعتصم بشباب القلب وعنفوان الحواس واخضلال الروح.

على مشارف «الكمين»، لمحت جرحاً يمتدّ من الخليج إلى المحيط، كانت الفرس تضمّ إلى صدرها المدن الشاحبة وقد نُصلت دماؤها على غلاف تأبّى أن يترك بصمته الفريدة تفلت من عقال الذائقة.

بيد أنّ المدن وقد استشعرت أصالتها الكامنة تحت الحدث، اشتدّ حضورها وزهت ألوانها فأورفت وأينعت غير آبهة بتسلل الصحراء إلى قلبها، فهي تملك من الدم ما يردّ ومن العزيمة ما يصدّ.

ما إن تدلف إلى تلك الغرف الصوتية في معمار الرواية حتى تستدرجك الخصوصية المضمّخة بماء وجدها وقد تناءت بك أصداء وأهواء.

وفي غمرة مخاتلة، تجدك متورطاً حتى التماهي في تقنية سردية تحيلك فوراً إلى منعطفات الدهشة وإرباكات الذهول وقد أمسكت بتلابيبك شخوصها الغارقة في مفارقاتها ومزالقها.

يقع «كمين» طلال مرتضى بين ضفّتَي مئة وسبع وخمسين موجة تأخذك معها في دوّاماتها المخاتلة، دوراً تلو دوار، لترميك في النهاية على رمل الصدمة وقد استمطرت عواطفك المتشابكة في حبكة غوايات مرسومة بريشة حاذقة.

من «باب النار» إلى المخرج الأخير، عطفاً على «صباحات الزعتر» المعطورة برائحة الحنين والقلق، فـ«في بيروت وحدها» تجتمع الأنواء والمتناقضات منفتحة على كل اتجاه، تعثّراً بوصايا السلطة الرابعة، مروراً بـ«شارع الغرباء» ذلك الذي عبره الكثيرون وقد أنضجوا في مطابخه وجبات أحلامهم ومطامحهم.

وتورطاً في «الكمين» حيث يتداخل الشعر بالسحر في ملاحم سرية، عصية على الاستكناه.

فـ«كم من فئة قليلة» كمنت في بؤبؤ الحدث ترصد لحظة الصفر في توقيت المحتوم على لائحة الممكن.

و«بين إلهام وكمين» يأخذك شريط الصور على متنه الحكائي إلى مشارف تداخل نوعي بين الراهن والطارئ حين تفضي البلبلة إلى معمعة «وكأنها النهاية» المحتومة في «انزياح الدم» حيث تلعب المفارقة لعبتها الصادمة. ويبقى الحال معلّقاً على «شريط الحكاية»، في متلازمة «عود على بدء» وقد أنذرت السماء بـ«أوّل الغيث كاتيوشا». إنها المصادفة المدموغة بتراتيل «صلاة» في حضرة الغياب. لتتصادى عن بعد حميم «على القارب موسيقى تعزف»، إنها الوحدة ولا شيء يمكن فعله. وفي «داخل المكان» تشتدّ حرارة وتستعجم أحاسيس وفي خارجه تدور «حرب ضروس» لا يمكن قياس أبعادها على لائحة التخمين.

إنّه «الوعد» يمتطي متن الحكاية ويتحمل مسؤولية تنفيذه وحده، «خارج نصّ الحكاية» حين يكون الحبّ ضرباً من الجنون وحين تضلّ البوصلة طريقها إلى اليقين.

يأخذك «تمرّد الأصوات… العصف» إلى الوقوع أسير تشابكات وتداخلات، ما إن تمسك خيطاً منها حتى يفلت آخر.

وما أن تنطلق إلى آفاقك القصوى إلا وقد أطبقت على أطياف القصيدة الغافية حيث «انعكاس المرايا» يلاحق فلول الحيرة في ظلمات الارتياب. إنها «زهور حمراء لذاكرة خائنة»، تستدرج أشواقك، لتقع في كمين أوهامك وقد عبثت بمشاعرك رياح الهجران.

هو الراوي ذلك المخاتل المراوغ يتراءى على سطح ذاته وقد مال به مركب السرد، وكاد يوقعك في لجة شعثاء لأحداث مروية تستعرض عريها، فتستصرخ الغفلة من وراء الحدث لتزجّك في غواية الرمل وقد عصفت بتوقعاتنا زوابع الحلم الذي يأبى الراوي أن يخرجه من مضمونه، مؤكداً أنه «ليس حلماً»، لتدور معه من خلال بطله «ربيع» دورته، وقد عصفت به حمّى الصدمة وهذيان السارد، ذلك المتلاعب المشاغب، حيث جعل من «صوفي» حبيبة «ربيع» حلماً مستحيلاً وفراقاً ما بعده من لقاء.

لتدور «زوابع الحلم» تحت تأثير كابوس خانق، مستلبة أجمل الذكريات وقد طرحت فاجعتها على بلاط الصدمة. لتجد قدميك «بين موطئين» في مزالق الرواية وقد علقت وما من فكاك، فأنت ستلاحق الأحداث حتى النهاية.

ينقلنا السارد بتأثير إغراءاته إلى «نصر محتوم… وفتنة راوٍ»، ذلك النصر الذي دُفع ثمنه من نمير دمائهم وعرق صبرهم وجهدهم.

تدور أحداث هذه المحبوكة بخيوط البدعة، باستلهام مقاومة شعب أضاع بوصلته إبّان غفلة بريئة، أطاحت به إلى مفاوز الشتات، بخدعة دنيئة ونية لئيمة.

فهي في تقصّيها العمل الفدائي لمقاومة الاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين رصدت معالم يقظة ناهضة مصرة بكل ما تملك من عزيمة وإيمان بقضيتها، على استرداد ما استلب منها مهما كلف الثمن. وبما أن الحرب خدعة فالدواء من جنس الداء ولا يدفع شرّ إلا بالشر.

إذاً لا بدّ من المزيد من الكمائن والشراك، لاصطياد تلك الوحوش الوالغة في دماء شعب، كلّ ذنبه أنه يمتلك من الميزات والخيرات، ما يجعله محط مطامع عديمي الإنسانية والضمير.

لم يكن ذلك المجند «الإسرائيلي» المحارب «إيغال» على حدود أرض يزعم أنها وطنه إلا تلك الثمرة المحرّمة لقصة حبّ بين «ربيع أبو سجاد» بطل الرواية العربي اللبناني وبين «صوفي» والدة «إيغال» اليهودية الروسية وتتصعّد المفارقة حين يكتشف «سجاد ابن ربيع» من زوجته «خديجة»، أن الأسير الجريح «إيغال» «الإسرائيلي» الذي وقع في قبضتهم، هم أبطال المقاومة، ما هو سوى أخ له من أبيه.

تلك اللحظة المستوحاة من متاهات الأفلام العربية لتخليق مفارقة صادمة للقارئ ولشخصيات الرواية ولقلب البطل الذي تمكن أخيراً من رتق جرحه بزجّ الرواية في بيت اللهب.

ترتكز الرواية في معمارها السردي على تقنيات فنية عالية، تدفع بالقارئ إلى دفع ذائقته في مغامرة ممتعة، مشاركاً في سير الأحداث وقد وفق الكاتب في إثارة الدهشة لدى المتابع لمجريات الحدث وتطور الشخصيات، ليوقعك في كمين المفارقة وقد تنقل بك من زمن إلى آخر في تداع حر، ينساب بصنعة متقنة وكأنه مشغول بعفوية ذات، تراكمت فيها الخبرة والتجربة الفنية الإبداعية.

ما يؤخذ على الرواية: ورود أغلاط لغوية يمكن تداركها في طبعة تالية، وهي مثلبة على من عمل تدقيقها إن جاز المقال.

كلمة أخيرة، باحتمالات قائمة لما يحققه مدلول كلمة كمين، اعتمد الكاتب أسلوب المخاتلة بتمكين الدهشة. ليتمكن من غزو وعي القارئ وهذا يحسب له لا عليه. اعتمد المقاطع الشعرية وبعض الصور البيانية في تجميل بنائه السردي وتعزيز مضمونه الفكري فنياً وهذا أيضاً يحسب له. ارتأى أن تكون الأبعاد النفسية للشخصية متباينة وهذا ما يغني ويفعّل الحراك ويضفي المزيد من الحيوية. خرج من معطف الراوي إلى فضاء الرواية وقد أفلت من كمينه، واعداً بالكثير من المتعة الفنية والأدبية لأعمال آتية.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى