تركيا وواشنطن: تناقضات المصالح

د. هدى رزق

فيما تتمّ محاكمة ما يقرب من 500 شخص بتهمة المشاركة في انقلاب 15 تموز 2016 ومحاكمة غولين في القضية غيابياً، قام المجلس القومي باستبدال قائد القوات البرية التركية ورئيس البحرية، كذلك قائد القوات الجوية الحربية، بقادة مقرّبين من الحكم. لم تتمّ إقالة رئيس الأركان خلوصي عكار بالرغم من اتهامه الضمني بالتلكؤ وعدم المسؤولية ابان الانقلاب، لكن من المرجح ان يتقاعد العام المقبل وأن يحلّ مكانه يسار غولر المعروف بمعارضته الشرسة لفتح الله غولين وجماعة الخدمة والذي عيّن قائداً للقوات البرية. وكان غولر قد اتهم الكماليين بالمشاركة مع الغولينين في الانقلاب مما استدعى ردوداً من الصحافة العلمانية التي رأت بأنه يستحيل التنسيق بين الطرفين بسبب العداوة المزمنة بينهما، لكن يبدو أنّ أولئك الذين يتوقون إلى الصعود والارتقاء الوظيفي في تركيا اليوم يعلمون انّ الطريق الى ذلك هو الولاء الثابت لأردوغان واصطناع التقوى أو إظهارها.

من الواضح انّ الرئيس أردوغان استفاد من الانقلاب لتثبيت سلطته واحكام القبضة على الجيش

والقضاء على خصومه وإقصاء آلاف الضباط، بمن فيهم 149 جنرالاً على الأقلّ، ومئات الملحقين العسكريين العاملين في منشآت الناتو في أوروبا والولايات المتحدة، مما ترك فراغاً في القيادات الكبرى أضعف القوات المسلحة التركية، وهي ثاني أكبر قوات الناتو إضافة الى انّ القوات البرية والبحرية والقوات الجوية أصبحت مرتبطة تنظيمياً بوزير الدفاع وليس بقيادة عسكرية، عدا عن إغلاق جميع الأكاديميات والمدارس التي يديرها الجيش. وتمّ السماح لمتخرّجي مدارس التدريب الدينية الإسلامية، الدخول الى الجيش في تركيا الجديدة، كما يمكن للمرء أن يكون في وقت واحد إماماً معمّماً ومنتمياً الى الجيش.

تهدف أنقرة الى تقوية صناعتها العسكرية. وقد حققت بالفعل بعض التقدّم في نظام الدفاع الجوي المتوسط المدى الذي قدّمته شركة روكيتسان ايه اس اس التابعة لمؤسسة القوات المسلحة التركية. هدف تركيا هو تطوير هذا النموذج وتصنيع صواريخ خاصة بها بحلول عام 2025. وليس سراً أن روكيتسان تتعاون مع شركة ومقرّها باريس على هذا المشروع. وفي الوقت نفسه، فإنّ تركيا عازمة على تلبية احتياجاتها الأمنية العاجلة، نظراً لتأثير اللأزمة السورية وبرنامج إيران الصاروخي عليها. وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية جوزيف دانفورد قد أثار موضوع محاولة شراء تركيا نظام الدفاع الجوي S-400 من روسيا. وأعرب عن قلقه لكون تركيا عضو في الناتو. أتى ردّ الرئيس رجب طيب أردوغان بأنّ الولايات المتحدة لم تساعد تركيا في الحصول على السلاح الأميركي، لهذا السبب كان على تركيا أن تبحث عن بدائل ووقعت اتفاقاً من حيث المبدأ مع روسيا وفي غضون أربعة أيام نشرت وسائل الإعلام التركية تقارير إخبارية وتعليقات على S-400 ووفقاً لبعض وسائل الإعلام، أيد 80 في المئة من الجمهور الموضوع من دون تحفظات، و15 في المئة كانوا حذرين إلى حدّ ما و5 في المئة فقط كانوا ضدّه. وتشير هذه الإحصاءات إلى تأثير أردوغان على وسائل الإعلام، فضلاً عن تزايد المشاعر المعادية للغرب في تركيا. من الواضح أنّ واشنطن مهتمة بجهود تركيا للحصول على S-400. اما روسيا فهي صامتة، وأنقرة غاضبة مع الناتو والولايات المتحدة.

لا يقتصر الغضب التركي على تجميد واشنطن إعطاءها السلاح، بل ايضاً على شراكة الولايات المتحدة المستمرة مع الأكراد السوريين، حيث قدّمت أنقرة شكوى رسمية ضدّ «بريت ماكغورك» الذي تعتبره أحد المهندسين الرئيسيين لهذه الشراكة. وكان ماكغورك قد أشار إلى دور تركيا في ظهور التهديد المتزايد للمجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة «لا سيما هيئة تحرير الشام» الذي توسّع مؤخراً وقبض على محافظة إدلب السورية على الحدود التركية. وقال ماكغورك في حديثه أمام لجنة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن في 27 تموز إن «تركيا هي التي ترسل عشرات الآلاف من الأطنان من الاسلحة وتستقبل المقاتلين الأجانب وترسلهم الى سورية».

واعتبر ماكغورك ان «إدلب تثير الآن مشكلة كبيرة. لكونها ملاذاً آمناً للقاعدة على الحدود التركية. ومن الواضح أنّ هذا الأمر سوف يكون محور نقاش وثيق مع الأتراك». يخشى المسؤولون الأميركيون أن تصبح إدلب مركزاً جديداً لتخطيط الهجمات الإرهابية ضدّ الغرب، ويرون أنّ إغلاق الحدود بين تركيا وإدلب قد يساعد على التخفيف من حدة هذا الخطر.

لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حسين مفتوغلو ردّ بتذكير ماكغورك بدور الولايات المتحدة بدعم «وحدات حماية الشعب الإرهابية» وأنّ هذا يجب أن ينتهي. تتمنّى تركيا تحرير الرقة من داعش وانتهاء مهمة ماكغورك، لكن كبار المسؤولين الإداريين الأميركيين يشيدون بشكل روتيني بماكغورك في المحادثات الخاصة. ويرون أنه لا يمكن لأحد أن يحلّ مكانه.

ومن المتوقع ان يناقش وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس المخاوف التركية حول العلاقة مع وحدات الحماية الكردية عندما يزورها في الأسابيع المقبلة في إطار جولة إقليمية. وهناك تكهّنات بأنّ تهديدات تركيا المتكرّرة بالحصول على نظام صواريخ «أس 400» الروسي هي تكتيك للضغط. تؤكد خطط الإدارة الأميركية على استمرار الحملة المناهضة لتنظيم داعش وانتقال قوات سورية الديمقراطية إلى وادي الفرات الأوسط حيث يتمركز مقاتلو التنظيم، على الطريق إلى البوكمال، ايّ على الحدود السورية – العراقية. ولن يسمح الأميركيون للنظام وللقوات المدعومة من إيران بالتقدّم في الاتجاه نفسه للوصول إلى هناك. فالسيطرة على البوكمال تعني السيطرة على الحدود السورية العراقية فيما تحاول دمشق وطهران وضع اليد على البوكمال وعدم السماح للقوات المدعومة من الولايات المتحدة الوصول لإعطاء واشنطن النفوذ.

تركيا قلقة جداً مثل الولايات المتحدة من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة وسيطرتها على الحدود السورية العراقية. وتفضل أن تسيطر الولايات المتحدة على البوكمال، ولكن ليس بالتنسيق مع وحدات الحماية الكردية، لكنها فشلت في إيجاد بديل لهذه القوات من أجل القيام بهذه المهمة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى