في الحرب… النصر لأصحاب الهوية
سماهر الخطيب
في المشهد السياسي الدولي اليوم ما يتعدّى حدود المنهج العقلاني. موازين قلبت، وساعات قدّمت، وسطور لرواد التاريخ قد بدأت.
ما بين الأقطاب السياسية تجاذبات مصلحية توافقية، بعد أن كانت فردانية عمودية.
والمعادلة الربحية قد ولّى الرهان عليها، في نظرية الألعاب الصفرية.
وما بين التوافق والتنافر وبين معضلة السجين باتت اللعبة واضحة المعالم منسوجة بخيوط واهية كـ»خيوط العنكبوت».
بالأمس البعيد، تلاقت المصالح وتكاتفت الجهود وتوحّدت الأهداف وتسلطت الأضواء ومعها المنابر على أرض الشام بحجة الحرية ونشر مبادئ الديمقراطية. فلا هي أضواء نورانية وكثيراً ما تعطي النار ضوءاً آنياً سرعان ما ينطفئ بشعلة المقاومة. فما حال نيرانهم «الآنية» الزمان أمام تجمّع لشعلة المقاومة «الأزلية» المكان والزمان إلى أن تعود الأرض، كلّ الأرض، إلى أصحابها.
وما حالهم اليوم مبعثرين في المكان تائهين ومذعورين كفئران تراوح لا هي قادرة على الهرب ولا على الاعتراف بالهزيمة.
هذا هو حال ما سميّ وقتها بـ «أصدقاء سورية» الذين أكلت النيران جباههم وأفرغت عقولهم بعد صدورهم.
وفي بانوراما سريعة على ما آلت إليه أوضاع أولئك «الأصدقاء» من تخبّط وتلبّط، وهرج ومرج، وبدون تحليل ولا تمحيص، بل يكفينا فقط عرض الصورة كما هي وحدها لا تحتاج إلى تشخيص:
السعودية والبيت الخليجي منقسم على نفسه ويفتعل الأزمات ما بين جدرانه، علّه يجد كبش الفداء الذي يحمّله ذنب الضحية ويضع الشروط ويتجاوز ما كان بينهم مشروط.
تركيا والبيت الأوروبي في نزاع وشتم وسبّ وتهديد ووعيد وأوراق اقتصادية أوروبية ترفع كالبطاقة الصفراء التي يشهرها حكم المبارة، معلناً الإنذار الأخير لتجابهها تركيا بورقة اللاجئين التي تشعل الضوء الأحمر أوروبياً وتعود من جديد لبدء التهديد والوعيد.
وفي تركيا انقلابٌ فاشل تلاه ديكتاتور للحقوق غاصب دونما وجه شرعية يزجّ بالأصوات العازفة على غير إيقاعه في السجن بمحاكمات جماعية أثارت صدمات دولية.
وفي البيت الأوروبي عينه وتحت سقفه يتمّ الطلاق في محاكمة مفعمة بالقيمة المصلحية والنفقة مطلوبة لتثير أزمة ثقة بريطانية وصرخات فردية سُمعت للملأ بأنّ تلك الوحدة الأوروبية مهما طال أمدها إلا أنها لا تتعدّى صفة المرحلية لكونها تفتقر لشرط القومية.
أما في رأس الأفعى الأميركي فحدّث ولا حرج عن ترامبيات البيت الأبيض منذ أن تسلّم تاجر العقارات ومهووس الربح المادي، مهما كانت الوسيلة متناسياً مهامه السياسية وهو ليس أفضل من سلفه إنما قدومه زاد الطين بلة وبتصرفاته وتناقضاته والغموض والغباشة التي لا تزال مخيمة على قراراته وإدراكاته حتى للأمور السياسية، ما أثار أزمات داخلية حاول كسابقه إشغال الطرف عنها بسياسات خارجية بلهاء لا بل مجهولة التسمية والهوية.
فوعوده لا تزال طيّ الورق وتصرفاته أثارت في النفوس الأميركية الحيرة والقلق كانسحابه من اتفاقية باريس المتعلقة بالمناخ، وكذلك محاولته إلغاء قانون «أوباماكير»، والقيود التي فرضها على المسافرين إلى أميركا، والجدار مع المكسيك وغيرها الكثير مما أثار الغضب داخلياً، والاحتقان اقترب حتى من الكونغرس والشيوخ، وفريقه يتهاوى كأحجار الدومينو، وفي محاولة لرثي ما اهترأ، تجاوز الأنظار نحو الخارج فكانت زيارته الخارجية الخليجية وقمّته المشبوهة، ولإظهار العدو المتربّص بدأ ينكش في كوريا الشمالية حتى يبقى الأميركي معتقداً بوجود الغول المتربّص.
الأمر الذي دفع بكوريا الشمالية إلى زيادة الجرعات الصاروخية وتهويل خطرها بامتلاكها الأسلحة النووية الذي لم يعد كلاماً فحسب، بل تجاوز إلى حدود الفعل والعمل والتطوير حتى كلامياً وليس فقط تكنولوجياً. وهي الآن طوّرت صواريخ تهدّد العمق الأميركي.
ويبقى في هذا كله البيت الأبيض متخبّطاً بجدرانه السوداء مستنزفاً حلفاءه لمصالح أبنائه.
ونستذكر هنا ما قالته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت: «عندما تتعرّض مصالحنا للخطر، فيمكن أن نتصرّف من خلال الأمم المتحدة، وقد نتصرّف من خلال حلف شمال الأطلسي، أو من خلال الائتلاف مع قوى معينة، وأحياناً قد نجمع بين هذه الأدوات جميعاً أو قد نتصرّف بطريقة منفردة».
وعلى سيرة أبناء البيت الأبيض، لا بدّ من ذكر الولد الخبيث «إسرائيل» الذي يصعّد إرهابه ضدّ شعبنا الفلسطيني. وما حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة من إضفاء الشرعية على وجود دولة فاقدة للشرعية لا بدّ أن ينجلي.
ومنذ تأسيس الأمم المتحدة التي قامت لتلبية وتحقيق المصالح الأميركية كما قال وزير خارجيتها الأسبق جيمس بيكر: «إنّ استخدام الأمم المتحدة لم يكن نتيجة التزام قوي بفكرة التعددية الدولية، بل كان نتيجة إدراك عميق لفكرة الاستفادة من الأمم المتحدة كوسيلة للقيادة الأميركية»، خير دليل.
وإذا ما نظرنا إلى الناحية الثانية، حيث تتواجد قوى التحالف الداعم لسورية المتمثلة بروسيا والصين وإيران وغيرها من الدول التي لا تزال بالحق تنبض نراها في حالة رسوخ وتماسك داخلي انعكس عليها خارجياً لتبرز كقوى دولية وإقليمية فاعلة ومؤثرة في القرارات الدولية.
وما قاله المفكر والمعلم أنطون سعاده بأنّ «كلّ عمل قومي صحيح يجب أن يبدأ بسؤال من نحن … وبإعلان حقيقة أساسية تقضي على البلبلة والفوضى… وتضع المجهود القومي على أساس من الوضوح لا يمكن بدونه، إنشاء نهضة قومية… وحصول الوجدان الحي لهذه القومية أمران ضروريان، بل هما شرطان أوليان لمبدأ السيادة القومية، سيادة الشعب».
وإذا ما قارنّا ما بينها وبين ما يحدث لداخل الدول الآنفة الذكر «أصدقاء سورية» التي تنهار وتعاني الضغوط والأزمات، فإنما تماسك الصين لكونها ذات هوية قومية، كذلك روسيا وإيران وتلك القومية المترسّخة في وجدان شعوبها انعكست قوة انبثقت من رحم عقيدتها التي صنعت لكلّ منها مركزها وسلطتها وحضارتها وديمقراطيتها المتأصلة في شعوبها.
أما في الدائرة «السوراقية» فنجد بأنّ النصر الذي تحقق من حلب إلى الموصل فجرود عرسال انتهاء بالجنوب السوري، فإنما تحقق بوحدة وتعاون وتضافر جهود الجيش والقوى الحليفة وإرادتها وإيمانها بقوميتها والدفاع عن الأرض بعيداً عن وعود ورهانات دولية كاذبة، متجاوزين ما اصطنعوه من حدود سياسية، لتظهر الوحدة الجغرافية، فيجب أن نضطلع بمسؤولية قضايانا القومية وأن نقرّر مصيرنا بإرادتنا نحن.
ونستذكر قول الزعيم سعاده: «يمكن أن يعاون السوريين من الخارج دول لها بسورية صلات تاريخية ودموية وثقافية وقرابة مصالح، ولكن لا يجوز أن يقرّر أحد، مهما كان قريباً لنا، قضية تخصّنا نحن. يجب أن ينتظر إلى أن نقرّر نحن ليوافقنا على تقريرنا».
ولا نصرَ يمكن أن يتحقق إنْ لم يروَ بتكاتف الشعب والجيش والمقاومة لتنعكس قوة تنبثق من رحم عقيدة متأصّلة في وجدان أبنائها فتصنع النصر والمركز والسلطة ومن حضارتها تنبجس الديمقراطية.