عشقٌ سومري على أنغام أورنينا في عيد التجليّ

آمنة بدر الدين الحلبي

لجانُ القمر بدراً في كبد السماء، ينتظرُ وصولي إلى مملكة ماري، ليحميني من غدر الأعداء حيث دعتني صديقة المحبة للقاء موسيقي جميل على أنغام أورنينا، والتي ستعزف لعيد التجلي.

كان اللقاءُ حميمياً في معبد إلهةِ الحب والخصب «عشتار». استقبلتني بابتسامة من شفاه رقيقة تتجسّد فيهما جمالية الصمت الناطق من عهد الأساطير، متربّعة على العرش من طين سومر، تحفّها شموع العيد من كل جانب.

قالت: «أورنينا» أنا، سيدةُ المعبد ومغنيّته سأعزف لك أجمل السمفونيات يا صديقتي، كما كنت أعزف له القيثارة السومرية، حين يمرّ على معبد «عشتار» إلهة الحب ورمز الأنوثة.

قلت: احكي لي عن «أورنينا» مَن تكون تلك السيدة التي ما زال عطرها يفوح إلى الآن رغم الحرب الطاحنة.

قالت: «أورنينا» لقب سومري مركب تركيباً من كلمتيْن وأَلِفٍ، الكلمة الأولى «أور» وتعني الهيكل المقدس، والثانية «نين» وتعني سيدة، والثالثة الألف للدلالة على الإفراد والتأنيث، وهي رمز للشعر الغنائي وملهمته، وأول عازفة على سطح الأرض من 3500 عام قبل الميلاد في معبد الإلهة «عشتار» بمدينة ماري.

قلت: «أورنينا» دعي أناملك تراقص الأوتار علّ العشقَ يندلقُ من أرجاءِ المعبد.

قالت: لكنّي اليوم سأرتِّلُ آياتٍ بيّناتٍ للسلام والمحبة، كان يأتي عاشقاً يوقد شموع العيد في تلك الليلة، ويشعل نار التجلي.

قال: أنتِ سيّدةُ المعبد، وأنا كاهنُ معبدكِ، أذوب عشقاً على أنغام قيثارتكِ السورية.

قالت: يا كاهنَ المعبد ارمي بياضكَ.

قال: جئتك عارياً من كل الكوابيس، إلا من اشتياقكِ، والشوقُ ينحني أمامكِ.

قالت: تهذي أمامي عشقاً، أم اشتياقاً، في ليلة العيد، ويهطل مطرك عند «عشتار».

قال: عشقي لك اشتياقا مشتعلاً بحرائق جنونك، بدلاً من حرائق الحرب.

صمتتْ وسافرت عبر جدران المعبد، لكنني شعرتُ أنها في قمقم جنون تبحث عنه بين عواصف الحرب القاتلة.

قطعتُ صمتها بهمسةٍ عن الإلهة «عشتار» ومن تكون في ذاك الزمان.

قالت: هي «إينانا» السومرية إلهة الحب. وهي رمز الأنوثة المعبّرة عن الخصب التي عُبدت في البلاد كلها، بداية من جنوب العراق منطقة الأهوار بالتحديد .

لكن عُرفت فيما بعد بـ»عشتار» الإلهة الأم العبادة الواسعة الانتشار ذاتها في الديار الشامية.

قلت: ها نحن في مدينة «ماري»، إحدى أقدم الممالك السورية الواقعة على الفرات الأوسط، أكاد أسمع ضربات قدمَيْه مظاهرة احتجاج.

قالت: أجل نحن اليوم قرب مدينة «البوكمال» في مكان يُدعَى «تل الحريري»، لعل ريحه آتية.

قلت هي ريح النصر آتية لا محال، مادام حراسنا شارفوا على الوصول لتلك المدينة التي قامت بدور تجاري مهمّ بين بلاد الشام وجنوب الرافدين، وذلك في النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

قالت: عندما كان يزور مدينة ماري يأتي محمّلاً بالعطور والهدايا المطعمة بالعاج لسيدة المعبد «أورنينا».

قال: أسمعُ صوتَ عطركِ يرقصُ في أذني، يحرَّكُ تماثيلي المنسيّة من زمنٍ.

قالت: عندما تمرُّ تستيقظُ الأنثى في داخلي، ويغتالني همسُكَ.

قال: لن تغادري، روحي متقمّصة حنينك «أورنينا» قيثارةُ العشق الذي لا ينتهي والاشتياق لا يتوقف.

قالت: يا سيد الحضور، علّمتكَ كيف أنهمرُ بحضوركَ من دون توقف، وأرتِّلُ أجملَ القيثارات.

قال: سأحيكُ مؤامرة مع تراتيل عزفكِ المنفرد على الأوتارِ الخمسة المتصلة بحلقاتٍ تتيحُ لك التحكم بها، كما تتحكّمين بقلبي، قيثارتكِ يا أورنينا تنسلُّ الى حيرتي وتسرقُ النوم من عيني.

قالت: سرعان ما تغادرها عندما يزيحُ الفجر تَنَهُّدَ صدري وينفلقُ الصباح.

قال: أورنينا أنتِ استثنائية عشق في حياتي، من زمن سومر، أنت حاضنةٌ للقيثارة السورية ترقصُ أناملكِ على أوتارها كراقصةِ باليه.

قالت: إينانا السومرية، أم عشتار الشامية تنتظرك كل ليلة، وأنا أنهمر كما الفرات العذب في زمنك.

قال: هما آلهتا الخصب تنجبان لي القصائد، وأنتِ الخلود لروحي عندما تعزفين على قيثارتكِ السورية من زمن ونيِّف، ينتفضُ العشقَ في داخلي، واليوم العزف للعيد للسلام والمحبة، والخلود لي.

تمتمتْ بهذيانٍ وكأن المعبد يتشردُ في أعصابها، تسافرُ عبر بوح الطين، مرتدية الملابس الصوفية، وعلى جبينها أختامٌ منقوشة مزخرفة من زمن سومر، وعيناها يشعُّ منهما الذكاء، وينسدلُ شعرها الأسود بذؤابتيْن ترتكزان على الكتفيْن، وفي جيدها طوقٌ مرصوفٌ من العاج، ويعتلي زندها سِواران جميلان.

متدثرةٌ بتنورةٍ لها شكل سروال ينحسرُ عن ركبتيْها، وعلى ظهرها كتابةٌ مسمارية تتضمّن اسمها «أورنينا» وأنها قد نذرت تمثالها لمعبدِ عشتار.

قطعتُ همسها وجعلتُ أناملي تراقص أوتارَ القيثارة علها تصحو من ذاكرةٍ مضرجة بالاشتياق، ومنغمسة بالحزن على فراق حبيبها التي سرقته الحرب.

قالت: يحبّني أن أعرف ذلك، يعشقني كظلٍ في أساطير الجنون، وفي ممالكِ الحرمان، لكنه في ليلة كهذه حملته الحروف إليّ.

قال: لكِ إرثٌ موسيقي، كان وما زال رمزاً وشعاراً للأغنية السورية، ولك أرشيفٌ موسيقي أثري وجده الباحثون في مدينة «ماري» على قطعٍ صغيرة من أناشيد وقصائد غنائية. هي من أقدم ما هو معروف في التراث الثقافي الإنساني تتطابق مع أقدم لوحة موسيقية «أكادية» أنتظر سماع معزوفة منها.

قالت: يا ابن سومر، أراقصُ أوتارَ القيثارة، لنعيدَ ذاكرة الأيام، وكأن أصابعي تلثمُ يديك، في خمرةِ الحب.

قال: بالرغم من ثقوبِ ذاكرتي المنقرضة من زمن الطوفان، إلا أنني ما زلتُ أذكر تمثالك محفوظاً في متحف دمشق الوطني وله أهميته التاريخية العظيمة.

قالت: تعالَ نعزفْ اليوم قيثارة السلام والمحبة، وندقّ نواقيس الفرح في عيد التجلّي ونشعل شموع الفرح.

قال: راقصيني حتى الصباح ولنشربَ نبيذ السلام مع كسرة خبز من جسد المحبة.

قالت: تحت مرايا نور القمر ستعزفُ «أورنينا» قيثارة عشقٍ للسلام.

ومع امتداد لسان الصباح أشعلت «أورنينا» شموع السلام والمحبة بدلاً من رصاص الحرب وعزفتْ على أوتار قيثارتها.

آراميةٌ أنا… سومريةٌ أنا… كنعانيةٌ أنا… آشوريةٌ أنا… سريانيةٌ أنا…

أنا الحضارات الإنسانية كلّها… كل عام وأنتم بخير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى