«البناء» تباغت الأمينين مسعد وناديا حجل وتشاركهما عيد زواجهما السابع والستين

اعتدال صادق شومان

«أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي… على أنّي أنتمي إلى الحزب السّوري القومي الاجتماعي بكلّ إخلاص وكلّ عزيمة صادقة.. وأن أتّخذ مبادئه القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي وشعارًا لبيتي» ….

بهذا القسم وخاصيته الفريدة ينفرد القوميون الاجتماعيون عن المعنى الاعتيادي للأحزاب السياسية، إذ يتعدّى كونهم أعضاء في حزب يتكتل فيه أشخاص، أو مصالح محدودة تجتمع وتنتظم وتعمل لبلوغ غاياتها وأغراضها الجزئية أو المحدودة. إلى كونه «يشكل قضية خطيرة جداً وهامة جداً هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني» الذي هم منه والذين يكوّنون مجموعه.. الانتماء عندهم غايته بعث نهضتهم القومية الاجتماعية تأسيساً لعقلية أخلاقية نظامية جديدة في المجتمع الواحد الموحّد وفي تعيين مقاصدهم العليا في الحياة..

هم، لا يتقوّلون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة وحسب، بل يفعلون بالنظامية الفكرية والروحية والمناقبية، ويستمدّون مثلهم من لباب التاريخ ورموزه ومنه حملوا حتى أسمائهم فتنادوا بـ أدونيس، نبوخذ نصر وهنيبال، ميسون وبيسان… ولما ابتدعوا تاريخهم الحزبي تنادوا بأسماء البطولة فاصبحوا تموز، وجدي، وسناء..

لذلك كان مفهوم التعاقد والانتماء للحزب له خصوصيته المرتبطة بمفهوم الالتزام بالقسم الحزبي وعدم الحنث به، تحت أي ظرف بما فيه ذلك «الشرط» «أن اتّخذ مبادئه القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي»، لكونهم أُسْوَةً حَسَنَةً لأبنائهم والحاضنة التربوية والمؤهلة لأن تعدّهم إعداداً قومياً اجتماعياً سليماً ليكونوا في خدمة متّحدهم الأتمّ الأمة، وجعلها منطلقاً من المتّحد الصغير، إلى المتّحد الواسع الكبير والمتّحد الأتمّ ..

والعائلة في مفهوم حزبنا إحدى مؤسسات المجتمع المعنية برعاية هذه النفسية وزرع المناقب الجديدة في فلسفة الحياة، حياة وجود المجتمع ومصيره وغايته. إن هذا التعاقد على انتصار العقيدة لأجيال تتوالد وتتصاعد في ترسيخ الحق والخير والجمال مدى أزمنة التاريخ، «أجل مثل هذا التعاقد الجميل والجليل، لا يحتمل لعباً ولهواً إزاء الشؤون الخطيرة التي تساوي وجودنا» …

بهذه الأبعاد والمعاني لمثلنا العليا قصدنا بلدة «بولونيا» في المتن الشمالي حيث دارة «أبو معوض» مسعد حجل وزوجته الست ناديا، والمناسبة حميمة جدا ذكرى زواجهما السابعة والستين…

و بما عرف عنهما من حفاوة في استقبال ضيوفهم «لاقونا» على باب منزلهما عند دالية العنب التي تظلل درج الورد المتعمشق غمار من كل الالوان على الدرابزين الابيض، تحف بهما فراشتان جميلتان تطل من عيونهم نظرات شقاوة الطفولة مقرونة بثقة من عرف مكانته فتدللا. تشي تقاسيمهم بصلة شبه وقربى الى آل حجل.. وسرعان ما تبين لنا أنهما ليا، وفرح – ديبا، ابنتا الرفيق معوض، أصغر الأحفاد سناّ.. وبكونهما ذلك احتلتا المساحة العاطفية لجديهما كلها تثبيتا للمثل القائل: «ما أغلى من الولد غير ولد الولد».

بالنفس الطويل… أطفأ الزوجان مسعد حجل وناديا أبو جودة حجل «شموع» عيد زواجهما السابع والستين، بحفل اقتصر على العائلة الصغيرة خرقتها حلقة ضيقة من الأمناء والرفقاء والأصدقاء. وطبعاً الحاضر ابدا الأمين فاروق أبو جودة لكونه من أهل البيت نسباً وحسباً، وكانت المفاجأة حيث «باغتتهم» «البناء» بالحضور للمباركة بالعيد «المديد» أولاً، وللتجوال في أرجاء سر هذه المعمودية في أبعادها الإنسانية ومحاور تكافلها وتكاملها، طقوسها، كينونتها، وسماتها، على مدى هذا العمر من «الرباط المقدس».

وفي المسيرة العريقة لهذا الثنائي التي تعبّر عن ذاتها، نضالات ومآثر وإنجازات، في تجسيدهما للبعد الإنساني لهذه النهضة التي هي من صميم معدنهما بـ»رنينه الذهبي» بكلّ منطلقاتها وأبعادها ومكنوناتها المختزنة في أصالة وبعد أرقى وأبقى.. وبخلقهما حياة جديدة كما تستحق أن تُعاش وتروى.

إنها قصة عمرٍ كامل،وصدى الروح، حكاية من الحب والاحترام و حياة من العطاء والمشاركة، وايضا ارتكاسات الدهر وعقوقه..

هكذا عرفنا و عودنا هذا الثنائي المتميز أن يطلّ علينا من حيث نهض بهم إيمانهما وسما خلقهما بأدب وعطاء ومروءة ومناقب بما هو أسلوب تفكير ونمط حياة وليست مجرد ترتيبات شكلية، بل هي شيء معمّق في حياتهما وأعرافهما وتقاليدهما العائلية والاجتماعية ببساطة وبغير تكلف أو ادعاء..

إذ أصغيت.. تتنبه، إنهما يتكلمان. في صيغة القول الواحد، وإذا انبرى «حضرة الامين» متكلماً اصغت له «الأمينة» كما لو أنها تسمعه للمرة الأولى، وإذ هي تكلمت لتقول : «الأمين مسعد بقول» أو لتدعمه وتصدقه القول، أو «للفت نظره» لأمر سها عنه وقد «تلمّح» له الى شاردة فاتته الاشارة اليها..

في إطلالتهما معها حرص «الرئيس» على «الأتيكيت» والتصرّف الاستقراطي سواء في اللقاءات ذات الطابع الرسمي أو الخاص على صعيد الواجبات الاجتماعية والعامة، دائماً كتفاً إلى كتف، لا يتقدّمها خطوة ولا تتخلّف عنه بخطوة.

كلاهما يتحدّر من جذور عائلية أيقنت النهضة القومية في باكورة نهوضها في أواسط الثلاثينيات من القرن المنصرم.. فتفتح وعي كليهما، الطفلان مسعد وناديا باكراً على مثل الحق والخير والجمال .. فنهلا من معجن النهضة وتلقنا دروس البناء العقائدي والحزبي من مداميكه الأولى الى بنيانه العالي.. حتى بات يصحّ فيهم القول وعن جدارة: «قوميون اباً عن جد..»

هو، إبن معوض حجل الرجل المتعاطف مع القوميين، الذي أهداهم أول مركز في وسط ساحة جل الديب، قبل أن تختمه السلطات الفرنسية بالشمع الأحمر في عام 1939.. وعلى سطيحة بيت الوالد غفا مسعد الفتى على خاصرة الزعيم أنطون سعاده، ومن تلك السطيحة إلى كنف النهضة.. لتبدأ مرحلة النضال الطويل.

هي، ناديا أبو جودة ابنة الشاعر القومي الاجتماعي جرجس أبو جودة أبو فاروق والرفيقة ميليا زينون اللذين أقسما اليمين الحزبي في أوائل الثلاثينيات من القرن المنصرم على يد الزعيم شخصياً، وبرّا بالقسم، فأنشأ عائلة قومية اجتماعية تشعّبت شجرتها في رسمها النهضوي بالأمين فاروق أبو جودة الى جانب رفيقات ورفقاء وآصرة.. أبناء وأحفاد وأنسباء شبّوا وشابوا في ظلال العقيدة والحزب.

مسعد حجل الرفيق و«الأمينان» والرئيس مرّة ومثنّى وثلاثاً للحزب السوري القومي الاجتماعي، والحائز على «وسام سعاده» أرفع وسام حزبيّ، والرئيس للصليب الأحمر الكاميروني مدى الحياة، ومستشار السلك الدبلوماسي الكاميروني، وكومندور الدولة وقنصلها الفخري في لبنان، والرئيس السابق للجامعة الثقافية في العالم، ورئيس مؤسّسة «مسعد وناديا حجل الثقافية»، وصاحب الصروح العمرانية الفخمة، والعضو العامل في مديرية جلّ الديب، المواظب على الاجتماعات مثالاً للمنتمي المتواضع كأنه لم يبرح زمن المناقبية الأولى ومثالياتها في يقينه السلوكي، يملؤه وضوحاً جلياً للمفاهيم القومية، والمتأهب على الدوام لأمر جلل .

جاعلاً من نضاله وسيرته الشخصية والعملية كتابًا مفتوحًا يمكنه أن يلهم الشباب سبيل الوصول إلى تحقيق أهدافهم. وكانت الأيقونة الأبرز في سيرته هي «عصاميته»، واعتماده الشديد على نفسه وعلى صبره وكفاحه لتحقيق النجاح.

شريكته بالعيد يتذكّرها من النظرة الأولى: في كتاب مذكراته لم أبدّل …ولن !

«أطلّت فتاة شقراء إطلالة أميرة أو خيّل لي ذلك، بقامتها الممشوقة وجمالها الأخاذ وسحرها الفاتن، فأحسست بقشعريرة عاطفة أخاذة تجتاح أعصابي وتأسر أحاسيسي وتمتلك عقلي وقلبي ومشاعري كلها، وإذ بصوتها يتسلّل من أسماعي الى نياط قلبي».

ويوم اتفقا على التلاقي لم «يعدها بالكثير»، «لم أفرش لها الزهور ولم أعدها بما ليس بإمكاني، إنما علينا بدء حياتنا الزوجية من الصفر وبناء عائلتنا المستقلة والاشتراك معاً في العمل للنجاح الأكيد».

واذ تأجّجت عواطفه شوقاً لعروسته، ولأن الشعر نديم الهيام فاستثارت مليكة الشعر في خاطره وخصّها ببضعة أبيات عاطفية:

رأيتها في المنام فقلت آبت

وهل للطيف أن يبقى رقيبي

سلبت الرسم من صل المنايا

لكي أطويَه في قلبي الرحيب..

وبعد مضي سبعة وستين عاماً، نسأله اليوم عنها :

هي عندي «واو» العطف، ورفيقة درب وربّة الوجه الصبوح، وعروة دهري وصائن عريني. هي زوجتي وأم معوض نجلي الأكبر ابو مسعد حفيدي الذي رحل باكراً، وسوسن سميّة جدتها والدتي الغالية. وحشيشة قلبي أدونيس الذي هدنا رحيله، وهي جدة أحفادي. هي الرفيقة والأمينة في حلّي وترحالي، هي رأسمالي الأغنى والأبقى الذي لا يفنى ولا تقربه نار. كان حباً من «النظرة الأولى» وبقي حتى تعتق الخمر في الخوابي.

وهي إلى جانبي سيدة أعمال فطينة ورزينة، وتتمتع بفراسة وحاسة تمكنها من التبصّر في نتائج الأمور وعواقبها. «تبصّر» طالما أنجانا من الشرير.. سِرَاجُهَا لاَ يَنْطَفِئُ. هي إمرأتي القوية وقوتها نابعة من أخلاقها السامية وعقلها الراجح. وهي بكرمها وكرامتها سيدة راقية بامتياز.

في عهدتها الواعية المدركة انطلقت واثقاً في رحاب الحياة، بفضل فضائلها الكبيرة في دعائم العائلة لأبلغ ذروة النجاح في تعاقدنا الحياتي النبيل..

ثم يسأل ويجيب بفيض ابتسامة على الوجه المتعب لهذا النهار الطويل.. سمعت منها تأففاً يوماً!!! أبداً لا أذكر أو أن الذاكرة بدأت تخذلني ضاحكاً ..

وناديا… الصبية الشقراء لأنها ولدت مع بزوغ شعاع الشمس ما زالت تحتفظ بطيف جمالها وأناقتها وشعرها الأشقر وتسريحتها الشهيرة فلم تخذلها السنوات كثيراً، وما زالت تحمل تلك الالتفاتة المخضبة بالأزرق السماوي التي شبكت بحبائلها «ظريف الطول»، منذ أن أوقعت دراجته النارية وكسرت مرآتها، فكانت فأل خير، لتضحي هي المرآة التي ينظر من خلالها. فتأبطت ذراعه بحفل زواج اقتصر على الأهل محملا بوصية والدتها «ام فاروق» «امانة خلي بالك منها بعدها طفلة ومدللة وما بتعرف الطبخ والنفخ». ولحقت به حيث حلّ أو سمحت «ظروف الحزب» في الزمن الخطير وما زال خطيراً فمن مزارعة تذري البذور وتقود التراكتور في الجزيرة عند الداخل الشامي، ثم ترصف الأغراض على رفوف مؤسستهم التجارية الصغيرة في المغترب الكاميروني، قبل أن تهبط عليهما فرصة العمر، وتمكنهما من شراء قطعة أرض نجحا في استثمارها خير استثمار و«قال العاطي خدوا».

فتفتح باب داره على مصراعيه، بكونها سيدة منزل راقية استقبلت وودّعت وأقامت المآدب في منزلهما في الكاميرون، كما في بيروت، من الوفود أفواجاً وزرافات وألواناً، و«الصغير قبل الكبير»، وأعز الزائرين الأمينة الاولى.

وهي أن رافقته في جولاته الى المؤتمرات الرسمية والسياسة، فتطل بحلة وهيبة تليق بالسيدة الأولى..

واذ استدعي الأمين الى مركز الحزب «لأمر خطير» فكانت الى جانبه وكيلاً للمالية مرة.. أو تكفلت رعاية أسر الشهداء في عهدتها الأمينة..

وهذا لا يعني: «أننا لم نختبر تكاثر الخطوب وشدة المكابدة في فقدان الأحبّة، عندما فجعنا بالرحيل المفاجئ لابننا أدونيس، وليس بعده بكثير حفيدنا مسعد إبن ولدنا معوض، لم نجد سوى بعضنا نداري الوجع سوياً ونخفّف من وطأته عن روحينا، فكان ملاذي الحنون والآمن، كما كنتُ له..

خذلني.. أبداً ولا في أسوأ كوابيسي..

وكصبية خجولة لم تزل حمرة الخجل تغزو خدودها، قالت: لأ… ما تعمّد يوماً إثارة غيرتي لغاية أو لغيرها على كثرة الغوايات من حوله..

وإذ نسألهما عن سرّهما معاً: يأتي الصوت قولاً واحداً:

«الأساس الراسخ المبني بالثقة بالنفس والاعتماد على الذات، وإدراكنا منذ البداية أن الزواج تعاقد عقلين واعيين معنى المسؤولية المترتبة عليهما، أن هما قد قررا الحياة معاً، والتعاون الصميم بمنتهى الصدق والنبل والوفاء لغرض الزواج الذي هو المثال في الرصانة والثقة بالنفس.

ومع انسدال ستارة آخر النهار عن «ضيافة العيد» وقد أومضت الشمس مودعة، خرجت من دارة «صحاب العيد» بعد نهار حافل بالعشق والفرح أنصت فيه الى حكايات جميلة عن عطاءات كبيرة وحب أكبر يرافقني صخب ليا وفرح ديبا تطاردان أحلامهما الوردية وترسمان شمساً في باحة الدار المشرّعة على وسع القلب الرّحب ترمقهما نظرات جديهما برفق متناه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى