إضاءة «مدينة تأكل أولادها»… نصّاً شعبوياً تصريعيّاً!
النمسا ـ طلال مرتضى
ثمّة تواطؤ متعمد في المطالع. على غير هدى تتفرّس بحشرية القارئ المعهودة العتبات العليا، استكناهاً لاستنباط أوّلي للمحتوى وذلك استدلالاً بالمقولة: إن جلّ الكتّاب يختارون عناوين رئيسة لنتاجهم الأدبي من صلب هذا النتاج ذاته، أي أنّهم يختارون مقطعاً ما أو صورة ليكونا المدخل الأول والحامل لحكاياتهم. إيماناً منّي كقارئ، إن هذا يتأتى عبر الشروع باقتصاص عنوان «صائد» يعني أن يكون فخّ غواية للقارئ، بمعنى أدقّ يشبه ما هو ترويجي للمنجز!
لكنها المخاتلة وكما أسلفت بدأت هذه المرة ما قبل الولوج إلى صلب الحكاية والدخول في معترك فكّ أكوادها ومضمرها. بدءاً من أنك ستغرق بعد قليل بقراءة عدة قصص قصيرة لكل منها دالّها ومدلولها وأرضها وفضاؤها وزمانها!
في ما تركه المغاربي شكيب أريج، وعبر منجزه الجديد «مدينة تأكل أولادها»، مجموعة قصص قصيرة ـ والتي صدرت مؤخّراً عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» البيروتية 2017 ـ أجد بالفعل في حكايتها البنائية ومن خلال المعنونات العليا لكلّ نصّ، أنها قصص منفصلة متّصلة بمعيّة الحدث. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن تلك القصص المنفصلة المتّصلة، ما هي إلا ارتكاب لمروية حاول الكاتب جاهداً التخفّف من إثمها تحت وطأة الأحداث التي تعالقتُ ـ أنا ـ معها على غير دراية منّي، حين وقعت أسيراً لنصّها الحكائي الذي يشبهني بكل علائقه ومقوّماته وإسقاطاته وانكساراته.
من ثيمات النصّ السرديّ الناجح، وهو أن تجد أناك في محتواه، بحيث وكيفما تتلفّت ترى صورة روحك الداخلية وكأنك في غرفة مرايا عاكسة لذاتك.
أقول، إن الكاتب جهد تماماً ليترك نصّاً سردياً خاصّاً هنا، وقد نجح بنسبة كبيرة عندما جعل من نصّه «شعبوياً». وتمتاز النصوص الشعبيوية بقدرة فائقة على بثّ التصاوير والدلالات، لأنها تتماهى مع كاتبها وقارئها ومحيطها، وذلك لاقترابها من العامة، فهي ـ أي النصوص الشعبيوية ـ تقوم حكاياتها على رصد وجع الناس وتدوين كلّ ما يكدّر عيشهم وتجسّد مكابداتهم اليومية كما جاء في «مدينة تأكل أولادها». كان هذا العنوان كافياً ليكون دلالة أولى للدخول إلى صلب معاناة قائمة أو ستقوم بمعيّة ما يجترحه الكاتب من أحداث، والتي تشكلت منها صيرورة النصّ وحيواته التي وضع بصمته فوقها.
ففي مقاربة خاصّة، نحى الكاتب بطريقة أو أخرى نحو مفاز سابق، لكنه عمل أيضاً بجهد ودأب ليجعل من هذا المفاز خاصاً به لا محاكاة لنصّ أو مقولات سابقة. وذلك عندما تحدّث وتحت المعنون الفرعي «خم» بقوله بتصرّف، إن هذه المدينة خمّ كبير وكل ما فيها دجاج، وكلمة دجاج وحدها أيضاً كافية لتأخذ القارئ العارف نحو حياة عمادها الظلم والذل والإقصاء. نعم هي كافية وكافية جداً، من خلال أنّ الدجاج خُلق فقط للتفريخ، بل للشوي وفي حالات أخرى وأقلّها نتف ريشه، أمام ضعف الديوك التي ليست بأحسن حال وقت حضور الثعالب والكلاب والذئاب، بالطبع كان العزاء الوحيد لها أنها تعرف تماماً ـ أي الدجاجات ـ أن وراء كلّ حفلة شواء، كلباً أو ثعلباً أو ذئباً!
كانت محاكاة جميلة ورافعاً للمروية ومقاربة مع ما افتعله قبلاً ابن المقفع حين كتب «كليلة ودمنة»، ولكن الكاتب هنا توقف في حيّز ما ولا أدري السبب، إذ إنه لم يقم باستنطاق الدجاجات أو الديوك لتقدم شكواها إلى القارئ المترصد سير أحداث المروية؟
أقول، لعلّ الكاتب أراد رسم خطّ خاصّ به وهو مصيب هنا، كي لا يقع في فخّ التقليد أو النقل أو التكرار، ولا من ملاحظة على هذا إلا حشرية القارئ الذي يفتّش بنهم عمّا وراء هذا الحراك.
نقل الكاتب أحداث مرويته بحيادية تامة، فحين الوصول إلى القفلة تتلمس هذا بكثب وقد تهدس بينك وبينك كقارئ من خارج النصّ، لتقول إنّ الكاتب كان أشبه بمراسل أمين، حيث اكتفى بنقل ما تراه عيناه من دون أن يقدّم أيّ حلول، فهو أجاد في تصوير الأحداث، من زوايا تالية لربما لم نرها في نصّ سالف لولا تدخّله الشخصي، ودوَّنها كما رصدها، وهذا يترك أسئلة مهمة منها على سبيل المقال: ألم يكن هو داخل الدائرة الحمراء؟
وجواباً على ما سلف، أشي بأن الكاتب نهج تماماً وبعيداً عن الشعر، فاعلية التصريع والتي تستعمل في كتابة الشعر، وهي آلية قلّة ممن يكتبونها الآن، وكما فعل في سالف المقالات والأخبار «الأصمعي» وقت كتب قصيدته المشهورة «صوت صفير البلبل» وبالمعنى التصريعي حيث أنّ الكاتب أقفل نصّه الكتابي بما افتتحه أولاً، كما فعل الأصمعي في ذلك الوقت، بدأ بمطلع «صوت صفير البلبل»… وأنهى بـ«صوت صفير البلبل»