رواية «عائد إلى حيفا»: ضربة كنفاني الاستباقية… تفكيك ثقافة التطبيع فكراً وممارسة! 1

نصّار إبراهيم

«هذه هي حيفا إذن، بعد عشرين سنة.

ظهر يوم الثلاثين من حزيران، 1967، كانت سيارة الفيات الرمادية التي تحمل رقماً أردنياً أبيض تشقّ طريقها نحو الشمال، عبر المرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة، وتتسلق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي. وحين عبر الشارع ودخل إلى الطريق الرئيس انهار الجدار كله، وضاعت الطريق وراء ستارة من الدموع، ووجد نفسه يقول لزوجته صفية: هذه هي حيفا يا صفية!».

1

أن يكون غسان كنفاني أو غيره من المثقفين الفلسطينيين والعرب نموذجاً حاضراً للمثقف الثوري التقدمي الملتزم في الوعي والذاكرة الفلسطينية والعربية، أمر هام وضروري يعبّر عن القيمة الكبرى والحيوية لدور المثقف والثقافة في مواجهة التحديات وتعزيز قيم المقاومة والانتماء، كما هو ضروري أيضا توظيف الأرث الثقافي والأدبي لتأكيد المواقف والتحفيز على الصمود والثقة بالذات الوطنية والقومية.

ومع ذلك يبقى ما هو أهم من ذلك، ألا وهو التجاوز إلى مستويات أبعد وأعمق بهدف إدراك المضامين الفكرية والسياسية والاجتماعية العميقة التي عبّر عنها كنفاني في إبداعاته المختلفة، ذلك لأن كنفاني لم يكن يكتب أدباً منفصلاً عن الواقع الفلسطيني، إنه لم يكن يمزح، بل كان مثقفاً ثورياً يترجم رؤيته وقناعاته وثوابته الوطنية والإنسانية العميقة في كتاباته الأدبية، تلك القناعات والثوابت التي التزم بها وكافح من أجلها، وصولاً إلى اللحظة التي دفع فيها حياته ثمناً لها من دون تردد، كما أنه في الوقت والسياق ذاتهما كان يكشف في كتاباته ويؤكد على الثوابت العميقة الراسخة في وعي وممارسة الإنسان الفلسطيني والشعب الفلسطيني المتمسك بقضيته وحقوقه ووطنه كالقابض على الجمر مهما بدت الظروف مجافية، وحتى لو بدت للوهلة الأولى أنها غير واضحة.

كل هذا جعل من مجمل كتابات كنفاني الإبداعية مقدمة لمشروع ثقافي فلسطيني وطني جدّي، غير أن وعي ملامح هذا المشروع مشروط بتجاوز المقاربات السريعة والعاطفية نحو عملية تحليل متعبة وعميقة لتلك الإبداعات، تحليلها بالمعنى الاجتماعي والسياسي والفكري بصورة منهجية تكشف لنا ركائز مقاربات كنفاني الثقافية للواقع الفلسطيني في نصوصه الإبداعية الأدبية والسياسية.

حينئذٍ، سنكتشف كم أن تلك الإبداعات عميقة ومركّبة، وكم هي راهنة وحيوية، بهذا يتحول الاحتفاء بكنفاني كمثقف ثوري مبدع إلى عملية وعي ونقد وبناء وتعميق للمشروع الثقاقي الوطني الفلسطيني المقاوم… بهذا يجري تحصين الوعي الفلسطيني بصورة علمية راسخة بما يتجاوز الحالة العاطفية الانفعالية والتوظيف المباشر، على أهميته، نحو فاعلية ثقافية عميقة.

هذه الفكرة أو الهدف هما الدافع من وراء هذه القراءة في أحد أعمال غسان كنفاني الروائية الأساسية رواية «عائد إلى حيفا».

بطبيعة الحال هناك أبعاد وجوانب أخرى في الرواية لها علاقة بالذاكرة والتاريخ وعلاقة الإنسان بالمكان، وهي أبعاد بالتأكيد تستحق التناول والتحليل، غير أنني حصرت النقاش ما أمكن في القضية المحددة والهدف المحدد من وراء هذه القراءة.

2

لقد قرأ الكثيرون، وربما أكثر من مرّة، رواية «عائد إلى حيفا» التي صدرت طبعتها الأولى في عام 1969، لكن الزاوية التي شدّت القرّاء أكثر من غيرها بمن فيهم أنا أيضاً، تركزت في الغالب على البعد الدرامي للنصّ، أي على وصف الحالة والمعاناة الفلسطينية التي تجسدت في أمّ وأب فقدا طفلهما «خلدون» في حيفا أثناء أحداث نكبة عام 1948 وما ترتب على ذلك من تشرّد وتهجير ولجوء، ومع ذلك بقي الأمل يراودهما بإيجاده ولقائه واستعادته من جديد.

وهذا ما حدث بالفعل بعد عشرين سنة، أي بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967… حين توجّه «سعيد» و«صفية» إلى بيتهما في حيفا. وفعلاً التقيا ابنهما «خلدون»/«دوف»، غير أن ما جرى منذ بداية هذه الرحلة وأثنائها تجاوز تماماً مسألة الدراما والعواطف، ليضعنا أمام نصّ مدهش يفكّك فيه كنفاني وبصورة في منتهى الذكاء بعض ركائز الوعي السياسي، ومن بينها فكرة في منتهى الخطورة والجدية، ألا وهي فكرة وثقافة التطبيع.

بطبيعة الحال، هذه القراءة الخاصة لرواية «عائد إلى حيفا»، قد تصيب وقد تخطئ، ومع ذلك فإنها كانت بالنسبة إليّ محاولة مدهشة ومتعبة في آن. لكنها فكرة تستحق كل هذا التعب وأكثر، في عمل أدبي إبداعي لكاتب فلسطيني مدهش، أعطى عمره وحياته لشعبه وقضيته العادلة، وهذا أقل ما يمكن أن نقوم به ليكون الإنسان جزءاً من عملية التفاعل مع الفكرة وإغناء الوعي.

في رواية «عائد إلى حيفا» يتجاوز كنفاني الدهشة وهو يأخذ القارئ في نص درامي متوتر… لكنه وهو يقوم بذلك بأسلوب سردي أدبي عالٍ، فإنه أيضاً كان يوجّه القارئ ويحفّزه بالمعنى الثقافي والسيكولجي والأدبي والسياسي ليعي ويدرك أسس ومنطلقات فكرة ووهم التطبيع من خلال تفكيكها بمهارة وبراعة، وفي الوقت ذاته كان يحطمها… أو لنقل أنه كان يقدّم تدريباً كثيفاً لتفكيك وتحطيم ثقافة التطبيع. بالطبع لقد أنجز هذه العملية من دون أن يستخدم مفهوم التطبيع بصورة مباشرة. ذلك لأنه لم يكن مفهوماً رائجاً في زمن كتابة الرواية.. غير أن هذه الفكرة الخطرة كانت تلوح في وعي كنفاني المتوقد.

ولكي يفكك كنفاني أبعادها بصورة علمية مقنعة، أي بعيداً عن اللغة الخطابية والاندفاعات العاطفية، فإنه قام بالاشتغال على بناء مشروعه الروائي بعقلية الباحث العلمي إن جاز التعبير، بمعنى تحديد الإشكالية أو لنقل سؤال البحث الذي يمكن صياغته كما يلي: ما هي حظوظ النجاح في إمكانية استعادة «سعيد» ابنه بالحوار والإقناع بعد أن فقده في سياق الكارثة الوطنية وبعد أن تربى وكبر ونشأ في سياق وشروط أسرة يهودية استولت عليه وعلى وعيه وذاكرته وعلى بيته ومدينته ووطنه بالقوة، اي هل يمكن استعادة الحقوق ابن أو وطن من موقع الهزيمة؟

كنفاني وهو يتصدّى لهذه المسألة، ويذهب لمعالجة مخاطرها الثقافية والسياسية، فإنه لم ينطلق من مقاربة الفرضية المشار إليها بصورة مجردة، بل كان يذهب إليها في سياقاتها، أي وهو يعي أن ما جرى كان عملية اغتصاب عنيف وواع وبالقوة لفلسطين وهذه حقيقة أو معطى أول، وأن عملية تشريد شعبها واقتلاعهم من بيوتهم وديارهم هي عملية سياسية ضمن مشروع استيطاني استعماري يقوم على أيديولوجيا واضحة ومحددة وهذه حقيقة أو معطى ثابت آخر، وأيضاً في ظل هزيمة ساحقة للجانب العربي ـ الفلسطيني، وهذا معطى ثالث.

3

انطلاقاً من ذلك، فإن تحويل هذه الإشكالية المشار إليها إلى فرضية للنقاش كان يستهدف، وفق مقاربة كنفاني، البرهنة من على قاعدة الوعي العميق للواقع على استحالة ذلك عبر الحوار أو من خلال تطبيع العلاقات مع عدو من هذا الطراز، أي من دون مقاومة ومن دون تغيير موازين القوى ومن دون حرب.

ولكي تأخذ التجربة مداها الأعمق والمقنع، قام كنفاني بتصميم الرواية بحيث يكون «ممثل» الطرف الآخر، بما هو مشروع استيطاني استعماري اقتلاعي عنفي وعنصري شخصية غير يهودية، بل وهو من ناحية وراثية شخصية فلسطينية، لقد شكلت هذه إحدى نقاط الارتكاز الحاسمة في مقاربة كنفاني، وقد أراد من ورائها أن يقول لنا: إنّ المشكلة ليست في طبيعة الفرد المحدد، فحتى لو كان فلسطينياً من ناحية البيولوجيا إلا أنه من ناحية السياقات والوعي والممارسة أصبح جزءاً عضوياً من مشروع استعماري اقتلاعي استيطاني عنصري.

بمعنى أن الإنسان يمكن أن يكون صهيونياً فكراً وممارسة من دون أن يكون يهودياً، كما يمكن أن يكون مع الشعب الفلسطيني وحقوقه أيضاً مناصرين ومقاومين من دون أن يكونوا عرباً أو فلسطينيين.

قيمة هذه النقطة أنها تحرر النقاش من «تهمة» الانحياز المسبق من منطلق العاطفة الفطرية التي تتوسل البيولوجيا أو الانتماء القومي أو الإثني أو الديني من دون أن تضرب في الوقت ذاته جوهر الفرضية أعلاه، أي أن كنفاني أراد أن يقول: حتى لو كان من يقف في الطرف الآخر تجري في عروقه دماء فلسطينية فإن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً، بمعنى أن الأساس في المقاربة هي البنية والمنظومة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التي تلتزم بأيديولوجيا صهيونية استعمارية تعرف جيداً ماذا تفعل ولأيّ أهداف وكل من يدعمها ويتبنّاها ويناصرها بغضّ النظر عن جنسيته وقوميته ودينه وجنسه.

كما يمكن مقاربة هذه الفكرة بصورة أكثر تعقيداً ربما، أي أن كنفاني جعل «خلدون» بصورة ما معادلاً رمزياً لفلسطين، فكما تم الاستيلاء على فلسطين بالقوة، كذلك أيضا تم الاستيلاء على خلدون من قبل عائلة يهودية استيطانية مهاجرة، وأخضعته منذ تلك اللحظة لغسيل دماغ شامل، اي بالضبط كل ما قام ويقوم به الاحتلال الصهيوني الاستعماري في فلسطين من استيلاء واستغلال وشطب لذاكرة المكان وتغيير لتاريخه. وعليه هل يمكن استعادة «خلدون» أو فلسطين من سيطرة احتلال من هذا الطراز بالحوار، أي من دون مقاومة وحرب.

بمعنى هل نحن هنا أمام سوء فهم يمكن حله بساعة أو ساعتين من الحوار أو التفاوض والنقاش الإنسانوي، أم نحن أمام مشروع سياسي أيديولوجي عنصري شرس وعنيف، يستحيل معه استرادد أي حق جدّي من حقوق الشعب الفلسطيني إلا بمقاومته وهزيمته الشاملة.

هذه بالضبط هي الفرضية الأساسية التي قام كنفاني بالاشتغال عليها في نصّ عائد إلى حيفا. أي البرهنة على استحالة استعادة الابن، أو الوطن المغتصب من دون مقاومة.

من خلال متابعة صيرورات أحداث الرواية ومواقف شخصياتها، سندرك جيداً هذه الفكرة بكل وضوح وسهولة… وهي بالضبط فكرة تتناقض تماماً مع ثقافة وسياسة وممارسة التطبيع، التي تقوم على الاعتقاد بإمكانية استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية من خلال الحوار وتطبيع العلاقات مع الاحتلال، أو الرهان على إمكانية إقناعه بأن يعيد إلينا بعض حقوقنا التي استولى عليها بالقوة.

4

بناء على هذه المقاربة، يمكن تكثيف البنية العامة لحركة الرواية بشكل عام بما يلي: رحلة «سعيد» و«صفية» إلى حيفا، هنا نلاحظ أنه وقبل أي حوار ومن اللحظة الأولى، فإن سعيد يعلن موقفه ومنذ بداية الرحلة حين يقول: «كل الأبواب يجب ألا تُفتَح الا من جهة واحدة، وإنها إذا فُتِحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها لا تزال مغلقَة»… إنه يشير بذلك إلى أن زيارته هذه إلى بيته في حيفا كما غيره من فلسطينيي الضفة الغربية وغزة الذين ذهبوا لزيارة بيوتهم تجري بسبب انتصار «إسرائيل» في حرب عام 1967، فهي التي فتحت بوابة «مندلبوم» بالقوة، وهي من يسمح للفلسطينيين بزيارة مدنهم وقراهم وبيوتهم في منطقة 48.

في هذا السياق يقوم كنفاني بسرد كثيف لذلك اليوم الذي فقد فيه سعيد وصفية ابنهما «خلدون»، وكيف استمات كل منهما من موقعه لكي يصلا إلى ابنهما.. ولكن من دون جدوى… فرعب الهزيمة كان جارفاً شاملاً تحت ضغط الموت والرصاص والجموع التي وجدت نفسها تساق نحو قدرها المحتوم بلا حول ولا قوة:

«وفجاءة جاء الماضي، حادّاً مثل سكين: صباح الأربعاء، 21 نيسان، عام 1948.

كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً، رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض.

وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت قذائف المورتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية.

وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى، واكتسح الرعب المدينة التي أغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها.

كان المساء قد بدأ يخيم على المدينة، ليس يدري سعيد كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها، مرتداً عن شارع إلى شارع، أما الآن فقد بات واضحاً أنهم يدفعونه نحو الميناء، فقد كانت الأزقة المتفرعة عن الشارع الرئيس مغلقة تماماً، وكان إذ يحاول الاندفاع في أثرها ليتدبر أمر عودته إلى بيته، يزجرونه بعنف، وأحياناً بفوهات البنادق وأحياناً بحرابها.

كانت السماء نارا تتدفق بأصوات رصاص وقنابل وقصف بعيد وقريب، وكأنما هذه الأصوات نفسها كانت تدفعهم نحو الميناء. ورغم أنه كان غير قادر على التركيز على أيما أمر معين، إلا أنه رأى كيف بدأ الزحام يتكاثف مع كل خطوة. كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلك الشارع الرئيس المتجه إلى الميناء، رجالاً ونساء وأطفالاً، يحملون أشياء صغيره أو لا يحملون، يبكون أو يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح. وضاع بين أمواج البشر المتدفقه وفقد القدرة على التحكم بخطواته. إنه ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر وكأنه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول، غير قادر على التفكير في أيّ شيء، وفي رأسه ثمة صورة واحده معلّقة كأنما على جدار: زوجته «صفية» وابنه «خلدون» … . وفجأه رأت «صفية» نفسها في موج الناس، يدفعونها، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة، في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده، كانها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش. كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن «خلدون» الطفل ما زال في سريره في الحليصا حي في حيفا ؟

ليست تتذكر تماماً، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض، فيما أخذ السيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء، وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها. وأمام عجزها وتعبها أخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة. ولم تكن كلماتها الطائرة في ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أي أذن. لقد رددت كلمة «خلدون» ألف مرة، مليون مرة، وظلت شهوراً بعد ذلك تحمل في فمها صوتاً مبحوحاً مجروحاً لا يكاد يسمع. وظلت كلمة «خلدون» نقطة واحدة لا غير، تعوم ضائعة وسط ذلك التدفق اللانهائي من الاصوات والأسماء. … واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها، وقررت أن تعود بأي ثمن… فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد في وجهها طريق العودة».

هذا السرد بتفاصيله وتوتره هام وضروري كونه يؤسس لفهم سياقات النقاش، بمعنى أن فقدان «سعيد» و«صفية» ابنهما «خلدون» لم يكن بسبب خوف أو بسبب جبن شخصي، وإنما هو نتيجة حتمية لهزيمة مفاجئة شاملة وجارفة، لم يكن بمقدور أي إنسان ومهما كان شجاعاً أن يوقف تداعياتها المخيفة، إنها تشبه سقوط قذيفة على بيت أعزل فتقتل الأطفال أمام عيون أمهاتهم من دون أن يكون بمقدورهن فعل أي شئ.

أؤكد على هذه النقطة لأنه قد يتبادر إلى ذهب البعض أن يسأل مستغرباً: كيف كان لـ«سعيد» و«صفية» أن يطاوعهما قلباهما فيغادرا تاركين طفلها الرضيع في البيت؟

نعم ممكن أن يحدث هذا جداً… إنه يحدث حين تقيم عصابات قاتلة تنفذ مشروعاً دامياً سدّاً من النار والموت والجحيم بين الإنسان وتبنه… يحدث حين توضع السكين على عنق إنسان أعزل ومقيد ويذبح أمامه أطفاله.

بعدئذٍ، يصل «سعيد» و«صفية» إلى بيتهما في حيفا، هنا أيضاً ومن البداية وحتى قبل أن يلتقي مع ابنه خلدون/ دوف يحسم سعيد الحوار مع «ميريام» اليهودية البولونية التي تحتل بيته، حين يقول لها: «طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب…». إذن نحن هنا لسنا أمام حوار وجدال بهدف الاقناع لمن الحق في البيت، فالموقف والحالة لا يحسمهما حوار، ذلك لأن خسارة البيت/ الوطن جرت في الحرب.. إذن لا يمكن استعادتهما إلا بالحرب، وغير ذلك لا يعود هناك أي منطق لحرب عام 1948 وفق الرؤية الصهيونية، ذلك لأن احتلالها لفلسطين لم يجر بسبب خطأ أو سوء فهم، وإنما تنفيذا لمشروع واضح تماماً.

بعد ذلك تأتي مشاهد الحوار مع ابن «سعيد»، «خلدون/دوف»، هنا نجد أنفسنا أمام حوار غريب ليس له اي علاقة بفكرة أو منطق والدين يسعيان إلى إقناع ابنهما، الذي فقداه قبل عشرين سنة، بالعودة إليهما من خلال توضيح وتبرير ملابسات فقده بهدف اقناعة بالعودة إليهما كما يُفترض في موقف كهذا وحالة كهذه… فطيلة مشاهد الحوار لم نجد أي تلميح أو سلوك من «سعيد» يشي بأنه يستهدف إقناع «خلدون/ دوف» بالعودة… بل كان الحوار محاكمة قاسية لمنطق الاحتلال بما يتناقض تماماً مع فكرة ومنطق عملية إقناع «دوف/خلدون» بالعودة كما هو مفترض… بعدها يمضي النص نحو نهايته الحتمية.. أي تحديد وتأكيد البديل عن كل هذه الثرثرة البائسة، حيث يعلن «سعيد» في نهاية الرواية خياره الحاسم: «أرجو أن يكون خالد قد ذهب أثناء غيابنا… يقصد أن يكون ابنه الآخر خالد قد التحق بالفدائيين …»، فهذا هو الخيار المنطقي والعقلاني الوحيد في التعامل مع عدو اغتصب فلسطين أرضاً وتاريخاً وشعباً.

5

انطلاقاً من ذلك، يمكن وعي وظيفة تفاصيل الرواية والخيط الناظم لبنيتها السردية.

يقول «سعيد» لزوجته «صفية» وهما ينطلقان في رحلتهما إلى حيفا: «لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفوراً، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ… لسواد عينيك وعيني؟ لا. ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقياً. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدماً لنا، معجبين بنا ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير».

هنا يحلل كنفاني فكرة مفصلية، وهي أن انفتاح العدو على محيطه الفلسطيني والعربي ليس شأناً عفوياً أو عابراً أو اعتباطياً… إنه انفتاح القوة التي تريد بعد أن استولت على الجغرافيا أن تحتل الوعي والحالة النفسية، لهذا فإنه يقوم بعملية الانفتاح ليرسخ فكرة انتصاره وحقه في احتلال المكان وإظهار قوته الشاملة، وبالتالي التأكيد على أن لا جدوى من مقاومة تفوقه وقوته العاتية، إنه يريد أن يرسخ مفهوم التفوق ليس في الميدان العسكري فقط، بل وفي الميادين السياسية والنفسية والحضارية. ولكنه يقدم ذلك باعتباره تعبيراً عن «تقاطع المصالح» ومدى «إنسانيته»… أي بالضبط ذلك الوهم الكبير الذي سقط ويسقط في مصيدته الكثير من الساذجين الفلسطينيين والعرب تحت عنوان «المصالح الاقتصادية المشتركة» مثلاً، أو عبر المقارنة بين سلوك الأنظمة العربية القهري تجاه شعوبها مقارنة بتصرف «إسرائيل» مع الفلسطينيين: «انظروا إلى إسرائيل إنها أكثر إنسانية ورحمة من العرب! إنها تسمح لنا بزيارة بيوتنا ومدننا وقرانا التي تحتلها وتستوطنها».

الوجه الآخر لهذه المعادلة أو العملية هو تكريس ثقافة الهزيمة عند الطرف الفلسطيني والعربي، الذي يذهب إلى العلاقة مع دولة الاحتلال من موقع الهزيمة والانكسار… اي من موقع القبول باشتراطات العدو والاعتراف بتفوقه.. سواء جرى ذلك بصورة واعية أو غير واعية.

هذه الفكرة المحورية عبر عنها كنفاني في الرواية بمنتهى القوة والتكثيف: «هذه هي حيفا يا صفية!

أتعرفين؟ طوال عشرين سنة كنت أتصوّر أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم. لكن أبداً أبداً لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً، وإلى حدّ كبير مهيناً تماماً. قد أكون مجنوناً لو قلت لك إنّ كل الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها لا تزال مغلقة، ولكن تلك هي الحقيقة».

بمعنى أن العودة إلى حيفا ما كان يجب أن تتم لأن العدو سمح بذلك.. لأن سماح العدو «بالعودة» بهذا الشكل وبهذه الشروط هو فقط من أجل إظهار تفوقه وقوته وإجبار الفلسطيني على الذهاب من خلال إحناء رأسه وكسر روحه وفق شروط ومعادلات القوة التي يمسك بها المحتل… لهذا كان يجب فتح «بوابة مندلبوم» بالقوة من جهة واحدة، أي تحقيق الانتصار الواضح لكي تكون العودة ذات معنى وقيمة وجدوى.. عودة بكامل الكرامة.

في الحوار الذي جرى بين «ميريام» والدة خلدون/دوف التي تقيم/تحتل بيت «سعيد» و«صفية» في حيفا يفكك كنفاني هذا الفكرة بصورة أكثر عمقاً:

«وأخيراً»، قالت ميريام من دون أن تجعل تلك الابتسامة تفرّ:

«منذ زمن طويل وأنا أتوقعكما».

وانحنى «سعيد» إلى الأمام وسألها: «هل تعرفين من نحن؟».

وهزت رأسها بالإيجاب عدّة مرات لتزيد الأمر تأكيداً، وفكرت قليلاً كي تنتقي كلماتها، ثم قالت ببطء:

«نتما أصحاب هذا البيت، وأنا أعرف ذلك».

ثم سمع صوت العجوز ميريام من بولونيا ، وقد صار الآن خافتاً وأشدً بطءاً:

«أنا آسفة، ولكن ذلك ما كان. لم أفكر قط بالأمر كما هو الآن».

وابتسم «سعيد» بمرارة:

« أقصد أن وجودك هنا، في هذا البيت، بيتنا نحن، بيتنا أنا وصفية، هو موضوع آخر، جئنا فقط ننظر إلى الأشياء، هذه الأشياء لنا، ربما كان بوسعك أن تفهمي ذلك».

فقالت بسرعة: «أفهم، ولكن…».

وفجأة فقد أعصابه: « نعم، ولكن! هذه اللكن الرهيبة، المميتة، الدامية».

«طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب..».

هنا في هذه الجملة يحسم كنفاني النقاش بضربة واحدة لا تترك مجالاً لأيّ رهان أو التباس.. أي أن استعادة البيت، واستعادة حيفا واستعادة فلسطين واستعادة ابنه «خلدون» تحتاج إلى شروط أخرى مغايرة تماماً عن شروط اللحظة: إنها ذلك مشروط بفتح بوابة مندلبوم بالقوة من جهة واحدة، وبكلمة إن كل ذلك «يحتاج إلى حرب».

6

لكي يعزّز كنفاني هذه الفكرة فإنه وأثناء الحوار مع ميريام وقبل أن يحضر خلدون /دوف يقوم بنقلة مفاجئة في رواية «عائد إلى حيفا»، وذلك حين ينتقل لسرد نصّ موازٍ عن حدث آخر مختلف تماماً، حدث جرى في مكان مختلف ووقت مختلف، وهي قصة فارس اللبدة الذي عاد بدوره بعد هزيمة 1976 ليتفقد بيته في يافا، لقد قام كنفاني بهذه النقلة المفاجئة لكي يؤكد أن القضية هنا لا تتعلق بحالة فردية وحالة هناك، أو برد فعل شخصي في لحظة معينة.

فحين فتح الرجل الذي يقيم في بيت فارس اللبدة في يافا له الباب كان رد فعل فارس المباشر والفوري لافتاً: «واخيراً انفتح الباب، ومد الرجل الطويل القامة، الاسمر والذي كان يلبس قميصاً ابيض مفتوح الازرار». مد يده ليصافح القادم الذي لا يعرفه. الا ان فارس تجاهل الراحة الممدودة، وقال بالهدوء الذي يحمل كل معنى الغضب: «جئت القي نظرة على بيتي. هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح. تستطيع ان شئت، ان تطلق علي الرصاص هذه اللحظة، ولكنه بيتي، وقد انتظرت عشرين سنة لأعود اليه.. واذاً».

هي الفكرة ذاتها بالضبط، التي بدأ بها «سعيد» نقاشه مع «ميريام» حين قال أو أعلن مسبقاً: «طبعاً نحن لم نجئ لنقول لك أخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب..». الموقف يكرره فارس اللبدة وبالحسم نفسه مع الشخص الذي يحتل بيته في يافا مباشرة وقبل أي نقاش، وقبل أن يعرف حتى من يقيم في بيته: «هذا المكان الذي تسكنه هو بيتي انا، ووجودك فيه مهزلة محزنة ستنتهي ذات يوم بقوة السلاح».

ولكن فجأة ينقلب المشهد ويتغير اتجاه النقاش حين يضحك الرجل الذي فتح له الباب ودعاه للدخول وهو يخبره بأنه فلسطيني عربي.. حينها يأخذ الحوار منحى مختلف بصورة جذرية، حيث تصبح الأسرة الفلسطينية التي تقيم في البيت أسرة تحمي وتحرس البيت وذاكرته من خلال حفاظها على صورة الشهيد «بدر» اللبدة أخو فارس اللبدة في مكانها على الجدار طيلة عشرين عاماً. أي بالعكس مما قامت به الأسرة التي تحتل بيت «سعيد» واحتلت معه المكان وذاكرته ووعي ابنه خلدون الذي أصبح اسمه «دوف».

من هنا تبدو «عائد إلى حيفا» نصاً يتجاوز مفهوم الدراما التي تغمر حركة الرواية… لقد قاد كنفاني النقاش بوعي عميق جدا ليؤكد فكرته الناظمة، وهي استحالة استحقاق الحقوق الوطنية والفردية في صراع من هذا المستوى من خلال آليات التطبيع والنقاش الإنسانوي أو «القانوني» الساذج.

هذا هو الذي يفسر ويكشف لنا تماما أن سعيد وهو ذاهب مع «صفية» إلى حيفا لم يكن لديه أيّ أوهام منذ البداية.. فلو كان النصّ مجرد سرد درامي عادي عن حالة إنسانية في سياقات طبيعية، أي لا ترتبط بصراع قومي شامل، لترك الكاتب حركة ومواقف الشخصيات للحظة المحددة.. بحيث تتصرف بناء على ردود الفعل والقدرة على الاقناع والاقتناع… وبقدرة المشاعر والعواطف على تحديد وحسم المواقف والخيارات.

وهذا ما يفسر لنا أيضا جوهر الفكرة التي قالها «سعيد» لـ«صفية» وهم في الطريق إلى حيفا، أي قبل أن يصل إلى البيت وقبل أن يلتقي بـ«ميريام» و«دوف/ خلدون»، أي قبل أي حوار: بلى. كان علينا الا نترك شيئاً. «خلدون»، والمنزل، وحيفا! ألم ينتابك ذلك الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا اسوق سيارتي في شوارع حيفا؟ كنت اشعر انني اعرفها وانها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وانا في البيت، هنا. هذا بيتنا! هل تتصورين ذلك؟ انه ينكرنا! الا ينتابك هذا الشعور! انني اعتقد ان الامر نفسه سيحدث مع «خلدون» و«ترين!».

بمعنى أن الواقع وحقيقة الهزيمة المرة هما من قرر وحسم مسبقا نتيجة الرحلة: فكما تنكرنا حيفا، وكما ينكرنا بيتنا، سينكرنا أيضا ابننا «خلدون»… ذلك لأننا نعود في ظلال الهزيمة وحقائقها المرة والقاسية، بمعنى آخر لا جدوى من أي حوار.. فهذا مجرد مضيعة للوقت وهبوط بالقضية وتشويه للوعي وجوهر الصراع.

7

هذا يعني أن الركائز التي تستند إليها مواقف الشخصيات في «عائد إلى حيفا» تتجاوز بالكامل الرهانات الساذجة… بمعنى أن كنفاني قام بحسم النقاش نظرياً وسياسياً ووعياً بصورة مسبقة ولم يترك المواقف من قضية بهذه الحساسية للانفعالات العاطفية وكأنها تجري في واقع هلامي وملتبس يحتاج فقط لحسن النية مع بعض التوضيحات في جلسة حوار لطيفة لكي تذهب الأمور نحو نهايتها السعيدة بكل يسر وسهولة…

لكي ندرك ونعي هذه العملية الفكرية والسياسية المركبة التي طرحها كنفاني بمهارة وذكاء لنعيد قراءة وتأمل المشهد التالي في الرواية:

«إلا أن ميريام تقدمت إلى الأمام، ووقفت معدّة نفسها لتقول شيئاً صعباً. ثم ببطء أخذت تنتزع تلك الكلمات التي تبدو وكأن يدا ما تنتشلها من أعماق بئر محشو بالغبار: إسمع يا سيد سعيد. أريد أن أقول لك شيئاً مهماً ولذلك أردتك أن تنتظر دوف، أو خلدون إن شئت، كي تتحدثا. وكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي، أتعتقد أن الأمر لم يكن مشكلة لي كما كان مشكلة لك؟ طوال السنوات العشرين الماضية وأنا محتارة، والآن دعنا ننتهي من كل شيء. أنا أعرف أبوه، وأعرف أيضا أنه ابننا، ومع ذلك لندعه يقرر بنفسه، لندعه يختار. لقد أصبح شاباً راشداً، وعلينا نحن الإثنين أن نعترف بأنه هو وحده صاحب الحق في أن يختار. أتوافق؟».

لنلاحظ هنا منطق ميريام اي منطق القوة الواثقة والمهيمنة: «لكي ينتهي الأمر كما تريد له الطبيعة أن ينتهي»… ماذا تقصد يا ترى ميريام بمفهوم الطبيعة التي ستحسم النقاش، ماذا تقصد بذلك إن لم يكن الإشارة إلى انتصار المشروع الصهيوني بالقوة بكل ما ترتب على ذلك من حقائق باتت تراها طبيعية، بما في ذلك حقيقة احتلال فلسطين ووعي وذاكرة خلدون/دوف !؟ هل لذلك تفسير آخر؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى