جيوتو… راعي الغنم الذي أصبح رسّاماً رائداً!
د. يسري عبد الغني عبد الله
«لقد كان الرسام شيمابويه أحسن رسّامي عصره، إلى أن جاء تلميذه جيوتو وفاقه، حقاً لقد فاق التلميذ أستاذه بمراحل كثيرة! … دانتي.
ذات يوم، حوالى عام 1302، بعث البابا بنيدكت الحادي عشر برسول إلى مدينة فلورنسا في إيطاليا الوسطى، وكانت مهمة هذا المبعوث أو الرسول اكتشاف أفضل الرسّامين في هذه المدينة التي كانت تعدّ أشهر مدن أوروبا بفنانيها، وإحضار نماذج من أعمالهم الفنية لعرضها على البابا، بعد أن قرر تزيين قصره بالصوَر الزيتية الجميلة.
وقد أشير على هذا المبعوث أن يقصد إلى مركز جيوتو، وهناك طلب رسماً لعرضه على سيده، فما كان من الرسّام جيوتو إلا أن تناول فرشاة وغمسها في طلاء أحمر، وبحركة واحدة من ذراعه، رسم دائرة كاملة، قائلاً إن فيها الكفاية لكي يتبيّن منها البابا قدر الفنان وموهبته. وقد كان على حقّ في هذا، فقد عهد إليه البابا وعلى الفور بمهمة رسوم الفريسك على جدران قصره.
كيف أصبح راعي الأغنام رسّاماً شهيراً؟
لقد روى هذه القصة المؤرخ الإيطالي فاساري، الذي كتب عدداً من سِيَر أعاظم الرسّامين في إيطاليا بوجه خاص، وأوروبا بوجه عام، ونحن لا نعرف إلا القليل جداً عن شباب جيوتو. ولكن العلماء الباحثين يعتقدون أنه ولد عام 1266، في بلدة فسبنيانو، وهي بلدة صغيرة في إقليم المرتفعات الذي يبعد أميالاً قليلة إلى الشمال من فلورنسا. وكان أبوه قروياً بسيطاً من المزراع، ولعلّه كان يمتلك أرضاً خاصة به.
اشتغل جيوتو راعياً في أول صباه، كما كان يفعل الصبية في الريف الإيطالي. ويروي لنا فاساري أن جيوتو قد اعتاد أن يسوق أغنامه إلى المرعى لكي تأكل العشب، أما هو فكان يجلس ويأخذ في رسم الصوَر فوق صخرة ملساء، بقطعة من خشب محترق يشبه الفحم . وذات يوم، كان أحد الغرباء يمشي بين التلال، فاسترعى نظره مشهد الصبي وهو يخطّ رسماً لواحد من الحملان في قطيعه، وكان الصبي يرسم ببراعة لافتة للانتباه، جعلت الغريب الذي كان هو نفسه رساماً يدعى شيمابويه، يسأل الصبي إن كان يحب أن يتعلّم الرسم والتصوير بالألوان في فلورنسا.
ولقد سرّ جيوتو الصبي الراعي بهذه الفكرة، ولكنه طلب من شيمابويه أن يسأل والده أولاً، وبالفعل توجّه الفنان إلى الوالد وسأله إن كان يمكن أن يعمل الصبي معه في مرسمه تحت التمرين، ووافق الأب من دون تردد، وبدأ جيوتو حياته الفنية في مرسم شيمابويه، والواقع أن الشاعر الإيطالي العظيم دانتي، صاحب الكوميديا الإلهية، الذي التقى جيوتو حين أصبح رجلاً مشهوراً في الأوساط الفنية والثقافية، كتب يقول: «إن شيمابويه كان أحسن رسّام في عصره، إلى أن فاق التلميذ أستاذه، فقد تعلم جيوتو كيف يرسم بالفريسك، وبالألوان المائية فوق الجص المبتل، وكيف يزحرف الكنائس من الداخل، وكيف يصنع الفسيفساء، وهي صور مكونة من 1226 قطع ضئيلة من الحجر والزجاج الملون، تلصق في الإسمنت أو الجصّ».
ومن سوء الحظ، فإن تصاوير الموزاييك حال لونها عند تعرّضها للضوء سنوات كثيرة، ورسوم الفسيفساء تتآكل وتبلى، وعندما يقوم الفنانون في ما بعد بإصلاحها أو ترميمها، فإن كثيراً من معالمها الأصلية لا تلبس أن تزول، ولكن قدراً كافياً من أعمال جيوتو قد بقى على مر الزمان، ليكون بحق خير شاهد على أنه كان فناناً قديراً متميزاً.
وكان من أوائل أعماله بعض التصاوير بالفريسك في كنيسة سان فرنسيس، في إسيزي، وهي تحكي قصة القديس الذي أحبّ جميع الكائنات الحية وأشفق عليها بحبّ وحنان منقطعَي النظير، ويبدو أنه من الحق والإنصاف أن يغدو هذا القديس الذي حاول أن يدخل عوالم الإنسانية والحبّ إلى حمى بيت من بيوت الله والمتمثل في الكنيسة، مادة للتصوير على يد الفنان الذي أدخل الإنسانية إلى عالم الفن، فأسبغ عليها الحرارة والواقعية، وقد رأيت في كتب الفن الإيطالي صورتين جميلتين رسمهما جيوتو، الأولى بعنوان «صلاة من أجل الطيور»، وهي صورة جزئية من كنيسة سان فرنسيس في إسيزي، ومن المكان نفسه صورة ثانية جزئية بعنوان «معجزة النافورة». وإذا تأملت الصورتين، وهما من تصاوير الفريسك، وإذا حاولنا أن نتأمل أو نرى مدى اختلافهما الكبير عما سبقهما من الرسوم بالألوان أو الفسيفساء في عهودها السابقة، فما علينا إلا أن نقارنهما بأيّ نموذج آخر من نماذج الفنّ البيزنطي.
قبل جيوتو… كيف كان التصوير بالألوان؟
إن هذا الأسلوب البيزنطي في الفن كان مستخدماً في الكنائس المسيحية الأولى في السنين المظلمة المتّسمة بالعنف والقسوة بعد سقوط روما، وبعد غزوات القبائل المتبربرة، وقد أطلق على هذا الأسلوب وصف البيزنطي نسبة إلى مدينة بيزنطة، أو القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، التي ظلت قائمة حتى عام 1453، حين استولى عليها الأتراك بصفة نهائية.
أقول لك: إن الفن البيزنطي، الذي تتلاقى فيه الأفكار الدينية شرقية وغربية، هو فن جديد وروحاني من دون شك، وإذا نظر إليه المشاهد في مجاليه الكبرى، في كاتدرائية ضخمة، فسيجده غامراً في عظمته وجلاله، ولكنه فنّ جامد، لاإنساني، وذو رتابة لا تتغير، وهذا بالطبع ليس كلامي ولكنه كلام عدد من الباحثين والدارسين ومؤرخي الفن.
كانت الصورة ترسم بالفسيفساء أو بالفريسك، على لوحات خشبية مشتملة على بعدين فقط، الطول والعرض، ولم يكن لها عمق، وهكذا كانت الشخوص بلا امتلاء ولا كيان راسخاً، إلا كما يكون للصور المقتطعة من ورق، وكان الفنان لا يحاول أن يجعل قديسيه أو أنبياءه يبدون كأناس حقيقيين، وإنما كان يحاول إظهارهم كشخوص رمزية، هي نفسها على الدوام، حتى يمكن التعرف عليهم في الحال، وقد كان هذا شيئاً له أهميته في عصر لم يكن يستطيع فيه القراءة أو الكتابة سوى قلة قليلة من الناس.
وكان الفنان البيزنطي يستخدم أشكالاً ورموزاً مليئة بالمعاني الدينية، ولكن لم يكن لها ما يربطها قط بالحياة اليومية المعاشة، ويحكي تاريخ الفن أن الكنيسة كانت تفرض قواعدها أو تعاليمها على الفنان الذي يجب أن يلتزمها في اختيار الموضوع، وأسلوب العمل، بل حتى في الألوان التي قد يستخدمها.
جيوتو رسام واقعي رأى الحياة والناس والأشياء:
نقرأ: إن هذا النوع من الرسم بالألوان دام 600 سنة، ثم جاء الإيطالي جيوتو فنفذ إلى تقاليده العتيقة بفكرة جديدة تمام الجدة لما يمكن أن يكونه الرسم بالألوان، وكان أول رسام بالألوان رأى الحياة، إناساً وأشياء، فيما حوله، كانت شخوصه ذات وزن وحجم، كما هي ذات شكل ولون، وكانت بيوته وأشجاره المرسومة تمثل شيئاً واقعياً معاشاً بين إناسه المرسومين، وما يقومون به من أعمال.
وعليه لقد حطم جيوتو كل قواعد الفن البيزنطي الجامد، وغير اتجاه الرسم بالألوان برمته، وبحق لقد كان فنه معنياً بالكائنات البشرية التي تتحرك، وتتنفس، وتتكلم، التي تأمل وتخاف، تحب وتكره، تفرح وتحزن، هنا على أرضنا الدنيوية، في رقعة طبيعية كبرى عرفها ولابسها منذ صباه عندما كان راعياً بسيطاً.
أعمال جيوتو
إن أبدع وأفضل ما حفظ من أعمال جيوتو يمكن أن تشاهده اليوم في كنيسة آرينا تشابيل، في مدينة بادوا، تلك الكنيسة الصغيرة التي بنيت عام 1305، في الموقع الذي كان يقوم فيه المدرج الروماني الكبير.
لقد تجلّت مقدرة جيوتو الدرامية الكبرى، وبراعته في التصميم في ما سجله هناك من تلك المشاهد البالغ عددها 38 مشهداً، والتي استمدها من حياة المسيح وأمّه مريم العذراء. ومثال على ذلك ما يشعّ في تصانيفه من جمال وحيوية، فالحب يشيع في رسمه للأمّ والطفل، والوداعة تطلّ من الحمار الذي يقلّهما، في لوحة «الهروب إلى مصر». كما تتجلّى المقدرة والبراعة الفائقة في لوحة «قبلة يهوذا»، تلك اللوحة المكتظة بالشخوص، والتي وقفت فيها قوى الخير والشرّ وجهاً لوجه.
نطالع في تاريخ الفن: إن رسّامي القرن الرابع عشر الميلادي، لم يتوفّر لهم سوى معرفة مبدأية بالرسم المنظوري، ولكن جيوتو مضى في تطوير الرسوم الملوّنة بأقصى ما وسعه الأمر، من دون هذه المعرفة، وبفضل ما اتسق له من مقدرة فائقة في مجال الخطوط المعبرة، وحسن ترتيبه للمجموعات والألوان المتناسقة، وما تهيأ لشخوصه من إيماءات مباشرة وحيوية، بفضل هذا كله، كان عمل جيوتو الفنان العبقري لا شبيه في أي رسم بالألوان على مدار السنوات الـ600 السابقة لعهده.
لقد ترك جيوتو صوَراً بالألوان في مدن إيطالية كثيرة، وإن كان القليل من أعماله ما زال باقياً، فقد رسم صورة بالفسيفساء للمسيح وهو ينقذ القدّيس بطرس من بين الأموات، وهذه الصورة ما زالت قائمة في وسط كنيسة القديس بطرس في العاصمة الإيطالية، حيث يمكن مشاهدتها حتى الآن، بعد إدخال كثير من التغيير والتجديد عليها، كما قام بزخرفة خمس كنائس صغيرة في نطاق كنيسة سانتا كروتشه في فلورنسا، وكان أسمى تكريم توّج تاريخ حياته، هو تعيينه مهندساً لمشروع الكاتدرائية الجديدة في فلورنسا، فقام بتصميم الواجهة الغربية وبرج الأجراس، وتم تشييدهما وفقاً لما صّممه.
جيوتو: الإنسان الذكي البارع:
لقد أطرى كثيرون من الكتّاب والباحثين، عبقرية جيوتو وتحدّثوا عن صفاته كرجل ذكيّ بارع، حسن الطوية، ودود ومقتدر، حاذق في أعماله الحرفية الدقيقة حذقه كفنان مبدع.
كان نجاح جيوتو كفيلاً بأن يجلب له من المال ما هيأ له اقتناء أرض زراعية جديدة أضيفت إلى الأرض المملوكة له في فسبنيانو، والتي تركها له والده، وقد توفي جيوتو في كانون الثاني عام 1337.
وفي كاتدرائية فلورنسا التي دفن فيها، كتب رسّام آخر من أبناء المدينة ذاتها، وبعد مئة سنة من وفاته، هذا النقش تكريماً لذكراه: «إنني أنا الذي بفضل منجزاته، قد حقّ لفنّ الرسم الملوّن أن يبعث من مماته إلى حياة جديدة».
باحث ومفكر مصري في شأن التراث