إلى بيروت… عتاب شديد البهجة!

النمسا ـ طلال مرتضى

يا ملاك…

كنّا على بُعد قبلتين ولهفة قبل انكسار ريتم سلّم الموسيقى، صار النشيد أخرق الخطى، يا حبيبتي رشفتْ دمعتي نجواه!

كلّ انتظارات الحريق التي تناهشت أشواقنا، لولا لعنة البلاد، لصارت برداً ويماماً عند مفاز الملقى الأول. أعرف أن هذا الغناء لا يُطرب في ودّك رضيّة.

كان بيني وبين حبر الجوازات شعرة معاوية، كلّما شدّوا فتنتها، مددت لها سياق الرجاءات لأجلك فقط.

يا ملاك…

في البلاد الباردة لا يحفظون لازمات الأناشيد مثلنا ويردّدونها عن ظهر دندنة. لهذا، قطعوا عمداً شعرة العزف، وقتئذٍ تماماً صار قوس الرباب محدودبَ الحواس مثل أحدب المدينة الفاصلة التي ضلّت سواء سبيلها.

لستِ وحدكِ من نام في حضرة حلم الأمنيات.

توّاً عدتُ من جردة ترتيب أحلامي أيضاً.

لستِ وحدكِ الخاسرة، ها أنا أكتب لك مثل ذليلٍ منكسر في ربوبيته ـ وكي أبرر خسارتي ـ عمداً حرّرت كل ألعابك من أغلفتها الملوّنة والمزركشة، تركتها ترنو إلى بعضها باستهجان. كنت أسمع ردّات عتبها، هي الأخرى نامت في الأمس على حلم لقاء بيروت.

بيروت… أواه بيروت… أواه.

هل ضاق مطارك الفاره اختناقاً بعطر «دُمى» ملاك؟

صرتِ غليظة المعنى يا بيروت، لهذا رأيت الله وملائكته ينفضّون من حولك. كان يمكنك أخذ كلّ ضحكات «ملاكي» الصاخبات، ولا ضير إن ارتشفتِ عسل فرح دمعاتها!

ما كان عهدي بك إلا عهد الخلّ بخلّهِ ولا وعدي بكِ إلا وعد الحبيبة للمحبوب. كيف لا؟ وأنا الذي آمن بكِ معبودةً عن سابق جنون وبقولي السالف:

أشهد أن لا أمّ لي إلا أنت يا دمشق

وأشهد أن محبوبتي بيروت

كهاتين من أصابعي معي في المنة.

رزنامتي مكتظّة بك، كنت على موعد بك لارتشاف فنجان قهوة صباحي في مقهى «كوستا»، نأخذ معاً الطاولة المركونة في الركن الخارجي للمقهى عند تصالب الشارع. كنّا سنضحك حدّ القهقهة وننمّ بتجرّد على زمرة المثقّفين من روّادها المتوارين وراء صفحات الجرائد.

سنتلمس وقتذاك ومن دون عياء علامات الخيبة على وجوههم، وربما نقتنص بعض تهاليل الرضا عند أحدهم حين تجبر أبراج الحظّ العالية خاطره.

كنت أنتظر منك أن تدلي لي بأسماء الوجوه التي أراها هنا للمرّة الأولى، أنا أعلم، أنك رغم ضياعك، ما زلت تحفظين أسرار لجوئهم إليك.

ذاك هارب بروحه من سطوة نظام الحكم في بلاده، أتى ليستنشق شيئاً من هواء حريتك المباح، أو طامع بفسحة الأمل التي تهبينها لكل روّادك.

وهذا الذي نراه يلتهم صفحة الأخبار. تقول الحكاية إنه التهم ما استطاع من خزينة بلاده، حمل معه إلى هنا ما خفّ وزره وغلت ثيمته من خبز الفقراء. قد سُمع من لصٍّ سابقٍ أن بيروت تغسل الذنوب مثل إله، فجاء مستبشراً لغسل أدران كل ما يملك من أموال.

وذاك… وهذا… وتلك الناهدة الكاعبة، جاءت تشكو اكتظاظ أسواق بلدها باللحم الأبيض المستورد، حملتْ لحمها البضَّ بعناية وأتت غير نادمة.

في بيروت الحمراء وحدها يباع اللحم «بالأخضر» المتحوّل!

في بيروت… «الترويقة منقوشة زعتر» في مقهى «الروضة» خير من ألف شهوة تتنزّل منها ملامح الزيت مع الشاي المعتّق.

الفرصة متاحة هنا لكتابة «إضاءة» لافتتاحية العدد الجديد من صفحة البناء. بالتأكيد هذا قبل وصول عصام العبد الله. فمن غير اللازم أن يكتب الكاتب في حضوره أيّ حرف، أجزم تماماً أنه سيغيّر لك الفكرة وربما يبدّدها من رأسك كلّياً، أعرف مزاجيته على مبدأ لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.

لكنه ينصت إليك بإمعان حين تتلوها على مسامعه والحاضرين ووقت تدلف فكرتك إلى تلافيف دماغه لن يبخل عليك بكلمته المعهودة: حلووو.. حلووو يا…

اكتب.. اكتب لا تقل ما أنا بكاتب، لا تنشغل لو أبطأ وقتذاك زاهي وهبي المجيء، إنه هناك يجلس وحيداً على ضفة التعب، يعدّ لبرنامجه «بيت القصيد» زاد ضيف قادم.

اكتب… اكتب قبل وصول عباس بيضون لأنه سيشغلك تماماً في حكاية «أنطلوجيا السرد الروائي» في مرويته المقبلة، وذلك قبل أن يرتشف فنجان قهوته المغليّ مرّتين.

في حضور جودت فخر الدين اكتب كيفما تريد، لن يضيرك لو غمر كل المقهى بدخان سيجاره الكوبي، لكنك كن حذراً من مناقشة عماد شرارة حول آخر مرثية كتبها لقامةٍ ما غادرت دنيانا، فقط كي يبقى ميزان حسناتك معتدلاً، قل له بتخفف: اقرأ… اقرأ… اقرأ لي آخر تقديم كتبته لشاعرك المفضل شوقي بزيع.

في بيروت التي أتممتُ عليها نقمتي ورضيت بفاكهتها تيناً، كنت سأذهب بها شاكياً إلى العجوز بلال شرارة كي يهشّ بعصاه البطر.

في بيروت، كنت على موعد أن أشرب حدّ الضياع من «خوابي الكلام» وجِرار عبير شرارة، وقتئذ لا ضير إن خسرتُ أمامها في جولة «شطرنج» كلانا فيها رابح.

في بيروت، كلّ هذا سيذهب هباء بعدما أستمع إلى محاضرة علمانية من أحمد طي على مضض بعد أن يقتطع ثلثَي مقالي متحجّجاً:

«يا أخي فهمتك سابقاً… لا تقرّب عَ الدين… من غير شي عم يقولوا عنّا كفّار… كمان تسمية الأشياء بأسمائها… عم يقولوا عنّا قليلي حياء».

في بيروت، بيروت التي أعرفها ذهبت بعيداً عنّي، ركبت عتلة الريح، رأيتها في المنام تجدّف في وحل خطيئتها حين جعلتْ عينَي «ملاكي» تدمعان.

حين جعلتني أعيد «ألعابها» الموعودة إلى أغلفتها بعدما ضاقت بها ذرعاً متاجر فيينا الصاخبة.

بيروت… بيروت… لستُ عصيّاً ولا غليظ القلب مثلك كي أكتب على وجهك الصبوح عتاباً شديد البهجة!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى