اللسان العربي في مالطا الأوروبية
اعتدال صادق شومان
في زمن تعاني اللغة العربية طغيان متغيّرات عصر العولمة، وتتربص بمفرداتها اليومية مصطلحات جديدة وكلمات دخيلة غصّت بالتعابير المستحدثة كتابةً وتحدُّثاً، تصيب لغتنا الجميلة بالضمور، وتُلحق اعوجاجاً بلسان لغة الضادّ. تنبري الباحثة المالطية ناديا لانزون إلى لبنان موطن أحمد فارس الشدياق اللغويّ والموسوعيّ الكبير، الذي رافق وعيها الثقافي المتفتح على عشقها هذا الإرث اللغوي العريق الذي يعود إلى زمن «الفتح الإسلامي» لمالطا بين عامَي 827 و1090، فصارت اللغة العربية على مدى الزمن إحدى السمات التاريخية المكوِّنة للثقافة واللغة المالطيتين.
بهذا الشغف، توسّعت الباحثة المالطية ناديا، صاحبة الاسم العربي العريق والجميل ومعناه النديّة أي المبتلة من أثر المطر، وكان العرب يسمونه استبشاراً في أن تكون المولودة كريمةً معطاء. وفعلاً، لم تبخل ناديا لانزون على لغتها الأمّ في تقصّي شواردها في اللغة المالطية، خصوصاً أنها درست لغة الضاد في زمن الزعيم المالطي «دون منتوف» الذي أوجب تدريس اللغة العربية إلزامياّ في المناهج الدراسية المالطية. موغلة في التعمّق بدراستها والإمعان في عالمها الغنيّ بالمفردات والمعاني والخلاصات الدلالية، مكتشفة خبايا وأسراراً هائلة تكمن في الجذر الواحد للغتين العربية والمالطية.
أهّلها هذا الهوس باللغة العربية إلى نيل شهادة الماجستير بدرجة ممتاز في اللغة العربية وآدابها، كما تعكسها الرواية العربية المعاصرة. وهي الآن تعمل بمهنة تدريس اللغة العربية في المدارس الرسمية المالطية.
«مركز ألف للإبداع والمعرفة» الذي اغتنم وجود ناديا لانزون في بيروت، استقبلها في ندوة خاصة تحدّثت فيها عن المكانة المرموقة التي تتمتع بها اللغة العربية في مالطا مثلها مثل اللغة الانكليزية كمادة علمية إجبارية. حتى أنه كان يتعيّن على الطلبة الذين اختاروا التخصّص في اللغة المالطية وآدابها، أن تكون اللغة العربية شرطاً أساساً من شروط مجال تخصّصهم هذا. مرجع ذلك كما تقول الباحثة، أنّ اللغة المالطية مشتقة من اللغة العربية بما في ذلك قواعد الصرف والنحو، مع الإشارة إلى أنّ اللغة العربية وآدابها وثقافتها ظلّت متداولة شفوياً في مالطا إلى يومنا هذا. علاوة على أسماء الأمكنة والمدن والقرى والعائلات المالطية ذاتها، فكلّها إذا ما فُكِّكت هي عربية مئة في المئة، بِاستثناء اسم مدينة فاليتا العاصمة الحالية لمالطا، وبعض أسماء بلدات مالطية أخرى قليلة العدد. ما يعني أنّ عموم الشعب المالطي يتكلّمون لغتهم العربية الخاصة الموروثة جيلاً بعد جيل، رغم محاولات الاحتلال البريطاني في إزالة اللغة المالطية الشفوية الا انهم لم ينجحوا في اقتلاع اللغة العربية من الألسن المالطية.
وعلى مستوى الدليل الأكثر حسماً لجهة التأكيد على عربية اللغة المالطية جذراً ومصدراً، تأتي الباحثة على قاله عالم العربية وسائر اللغات المركزية القديمة الراهب اليسوعي الألماني كيرتشر: إنّ المالطية شكل من أشكال اللغة العربية ولم تفسدها لا اللغة الإيطالية ولا أيّ لغة أخرى خالطتها. والمعلوم أن كيرتشر قد درس المالطية عميقاً وأقام في مالطا مدّة من الزمن.
ويشاطره هذا الرأي مع بعض التحفّظات غير الجذرية، اللغوي والأديب اللبناني أحمد فارس الشدياق الذي أقام في مالطا بين عامي 1834 و1848، آتياً من مصر بناء على دعوة من من جهات أميركية بروتستانتية .
ويقول: «إنّ المالطية هي فرع من الدوحة» العربية. وقد ذكر ذلك في كتابه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبأ عن فنون أوروبا». ويعتبر هذا الكتاب سجلّاً تاريخياً وسوسيولوجياً وأنثروبولوجياً لا مثيل له لجزيرة مالطا وسكانها في منتصف القرن التاسع عشر.. أورد فيه الأحوال الديمغرافية المالطية حينذاك بعادتها وتقاليدها ونواميسها واللغة التي يتداولها عموم الشعب المالطي. حيث يؤكد الشدياق أنها لغة عربية بنسبة كبيرة جداً صمدت على مرّ القرون وتوالي موجات الفاتحين لمالطا ومخالطتها لغات أخرى. ويعتبر بقاء اللغة العربية في جزيرة مالطة، ولو محرفة مع عدم تقييدها في الكتب، دليلاً على ما لها من القوة والتمكن عند من تصل اليهم من الأجيال. أما بخصوص أصل اللهجة المالطية فيرى الشدياق أنها متأثرة باللهجات الشامية كما المغاربية، ويقول: «لكنني لست أدري أصل هذا الفرع، ااشامي هو أم مغربي؟
لا جدال إذاً في أنّ اللغة المالطية هي فعلاً فرع من الدوحة العربية. ويستوعب بحث ناديا للتأكيد أنّ عدداً من المفردات العربية التي تتعلق بالحياة اليومية المالطية كألأفعال وأسماء أيام الأسبوع، والألوان والأعداد، فضلاً عن أسماء الأطعمة والفواكه والطهي والفصول والطقس والحيوانات، وحتى في أداء الصلاة والمراسم والطقوس الدينية.