دير الزور «العلامة التاريخية» على عودة نظام تعدّد المرجعيات!

د. وفيق إبراهيم

يندلع سباق عسكريّ بين محور روسيّ سوريّ إيرانيّ وتنظيمات موالية من جهة، وآخر أميركيّ كرديّ غربيّ وعشائريّ من جهة ثانية للسيطرة على مدينة دير الزور ومحافظتها في وسط وادي الفرات، بما يكشف عن مركزيّة هذه المدينة في صراع المحاور.

لكنّها أهميّة قد ترتبط بالفصول الأخيرة للأزمة السوريّة، لما لـ«الدير» من مميّزات جيواستراتيجية واقتصادية وداخلية، قد تجعل من المناطق السوريّة الخاضعة لاحتلالات تركيّة وأميركية وكرديّة في الشمال والشرق عديمة الفائدة على مستوى مشاريع تفجير سورية أو «كنتنتها».

بدايةً، لا بدّ من التأكّد ما إذا كان هناك صراع أميركي روسيّ فعليّ للسيطرة على المدينة! برز استعجال أميركي بتأسيس «المجلس العسكري لدير الزور» وكتائب البكارة التابعة للجربا والشعيطات، وجرى ضمّ هذه القبائل العربية لـ«قوات سورية الديمقراطية» الكردية الموالية لواشنطن، في محاولة لـ«تعريب» معركة دير الزور، لأنّها مدينة عربية قد ترفض الدور الكردي.

أمّنت أميركا لهذه العشائر تسليحاً نوعياً، وتغطية مادّية وازنة، وحماية جوّية ومشاركة قوات أميركية على مستويي الاستشارة والمشاركة الحربية. ما يكشف أنّ هذه العجلة الأميركية تتمّ قبل تحرير كامل مدينة الرقة، لوقف اندفاعة روسيّة سوريّة مع حزب الله نحو المدينة، تتواصل حالياً على وقع غارات روسيّة مكثّفة تلعب دوراً حيوياً في تقدّم قوّات الجيش السوري وحزب الله والمنظّمات المتعاونة.

هناك إذن صراع حادّ على «الدير» تحاول واشنطن تحديد موعد لانفجاره العسكريّ بعد أسبوعين تقريباً، وهي مدّة ترى السياسة الأميركية أنّها كافية للسيطرة على الرقة، فيما تعتقد روسيا أنّ مواصلة التقدّم الآن نحو دير الزور مسألة استراتيجية، تستفيد من الانهماك الأميركي في الرقة وعجزها عن تأمين قوى من العشائر تكفي لـ«تعريب» المعركة حسب تعدد أصول مكونات دير الزور الديمغرافية. وإلا، فإنّ أهلها قد يعادون الكرد الآتين إليهم بشكل حلفاء، إنّما بأنياب فيها أطماع إقليمية تاريخية وإسناد أميركي غير محدود.

ويبدو أنّ السياسة الأميركية نجحت باستغلال الإحباط الكرديّ التاريخي لجهة عجز الأكراد التاريخي عن تأمين مدىً قومي خاص بهم، بسبب الألاعيب البريطانية والفرنسية التي استغلّتهم في عشرينيات القرن الماضي، ولمّا حقّقت طموحاتها تخلّت عنهم لمذابح أعدّها الأتراك بقيادة أتاتورك، بالإضافة إلى تهجيرهم إلى سورية، وجعلتهم منفّذين لمصالحهم تحت ستار البحث عن «وطن كرديّ مفقود».

إنّما لماذا هذا الصراع مهيّأ للتصاعد قريباً، وقد يتحوّل إلى صراع أميركي روسي حادّ، رغم التفاهمات بين هذين الطرفين في غير منطقة من سورية، وعلى رأسها مناطق خفض التوتّر.

إنّه الصراع الذي يندرج في إطار البحث عن ظروف تفاوضية أفضل للمتصارعين في مناطق خفض التوتّر و«التفاهمات»، ولا قدرة لهذا الصراع على إلغاء أدوار الجيش السوريّ وحزب الله والمنظّمات الإقليمية في منطقة دير الزور، لتشابه الثقافات البدويّة العراقية التاريخ في «الدير» وبعض المنظّمات الإقليمية المؤيّدة للدولة السوريّة.

أمّا عن أهميّات دير الزور، فتبدأ من موقعها الاستراتيجي في قلب وادي الفرات، ما يعني ربطها للمدن السورية في الشمال والغرب والشرق والجنوب مع العراق بما فيه كردستان. وهذا لا يفسّر إلا بأنّها عقدة مواصلات استراتيجية تجمع وتقسم في آن معاً. يجري الجمع في حالة السلم، أمّا في حالة الحرب فإنّ القوّة النظامية التي تمسك بمحافظة دير الزور تستطيع إلغاء كلّ المشاريع السياسية في شرق البلاد وشمالها، وذلك بقطع خطوط مواصلاتها ومنافذها فتصبح بلا جدوى وتتحوّل إلى جغرافيا غير قابلة للحياة على المدى الطويل، وذلك بسبب الحصار المرتقب، فتصبح «وزراً ثقيلاً» على داعميها.

إنّ هذه القيمة الجيوسياسية لدير الزور غير قابلة للاستعمال إلا من خلال علاقتها بالدولة السوريّة من ناحية البادية والغرب، وهذا ما يمنح الدولة السوريّة تمييزاً في تحرير دير الزور، علماً أنّ الدولة لم ترحل عن هذه المحافظة التي لا يزال الجيش السوري مرابطاً فيها، كما أنّ معظم الأجهزة الإدارية والأمنيّة لا تزال تعمل في مراكزها، ويجري إرسال الرواتب إلى موظفيها بواسطة الطائرات الحربية.

أمّا الأهميات الاقتصادية للمدينة فلا تُحصَى… يكفي أنّها تضمّ 40 في المئة من نفط سورية، وشكّلت في السنين الفائتة مورداً هائلاً للإرهاب من النفط والمحاصيل الزراعية، مع سيطرتها على مجرى نهر الفرات وحركة المواصلات نحو الإرهاب في العراق وتركيا وشمال سورية. هذا ما يدفع الجيش السوري مع حزب الله والمنظّمات الإقليمية العربية والرديفة إلى تحرّك عسكريّ «عجول» يريد تعبئة المكان قبل تحرّك القوّات الكردية الأميركية العشائرية، فتشنّ معركة الهدف الواحد بالمحاور الثلاثة، ريف الرقة وريف حمص ومنطقة مدينة السخنة نحو دير الزور، ولن يمضي وقت طويل قبل انكسار الحصار عن دير الزور وتعود إلى دولتها السوريّة.

فهل تُذعِن واشنطن لهذا السيناريو الروسي السوريّ؟ موازنات القوى العسكريّة هي لصالح محور الدولة السوريّة، وهناك إصرار روسيّ عميق على مسألة تحرير المدينة… الأمر الذي يجعل واشنطن تقبل بتفاهمات سريّة تحاول من خلالها المحافظة على مناطق الكرد في شرق سورية، مع بعض النقاط الأميركية عند الحدود السوريّة العراقية.

هناك مؤشّران يدعمان هذا التحليل أولاً الموقف الأردني الذي انقلب بين ليلة وضحاها إلى تعاون مع الدولة السوريّة التي تمكّنت مؤخراً من نشر مخافرها على القسم الأكبر من الحدود، أمّا المؤشر الثاني فإعلان تركيا عن نيّتها التقدّم إلى مدينة عفرين الكردية السوريّة، للقضاء على الإرهاب، حسب زعمها. فهل هذه المؤشرات دليل على استيعاب القوى الإقليمية الموالية لأميركا الأردن وتركيا أنّ واشنطن هُزمت في سورية والعراق؟ ما يرتّب على هذه القوى تسوية أوضاعها مع الدولة السورية أو انتزاع حصص لها قبل فوات الأوان؟

أمّا بالنسبة للصراع الروسي الأميركي، فهو من الدقّة بحيث لا يسمح أكثر من القتال غير المباشر، مع الاعتراف بكلّ تقدّم يُحرزه الآخر. أيّ أنّ الحرب المباشرة بينهما ممنوعة، لذلك فإنّ تحرير دير الزور بما تمتلكه من أهميات، يُعيد للدولة السورية أهمياتها العربية والإقليمية بما لها من تأثير في لبنان عبر حلفائها، والأردن بواسطة التعدّدية الموجودة، وفلسطين لولا سورية لانتهت قضيّتها.

ولسورية وزن في العراق، قد يتطوّر إلى تحالفات عسكرية واقتصادية، وهذا يُعيد مصر إلى حركتها في المشرق العربي من بوّابة دمشق.

والسؤال هو مَن المستفيد من نموّ الدولة السوريّة؟

إنّها سورية أولاً وتليها روسيا وإيران، فطهران على مستوى الإقليم أثبتت مرجعيّتها مقابل تراجع تركي سعودي. لكنّ روسيا مهيّأة لأداء دور مرجعي يعيد إحياء الاتحاد السوفياتي، وذلك انطلاقاً من علاقتها بسورية الوازنة والعراق المتين وحزب الله ذي الانتشار الإقليمي الشعبي وإيران الواسعة النفوذ. فهل تكون معركة دير الزور «علامة تاريخية» على إحياء نظام مرجعيّ جديد؟

اللهاث الأميركي لتعطيل معركة دير الزور دليل على محاولة واشنطن إجهاض ولادة مرجعيات جديدة، لكنّ حركة التاريخ تُبنَى بالعلاقات والميدان، وهو اليوم لصالح تحالف موسكو مع طهران ودمشق وحزب الله… فترقّبوا النتائج!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى