الروائيّ المنقّب في ذاته والتاريخ عن جذور ضائعة

جورج كعدي

التراجيديا ولاّدة إبداع. باتريك موديانو شاهدٌ إضافيّ على هذه المقولة الصحيحة. فالروائي الفذّ، الحائز جوائز أدبيّة رفيعة قبل نوبل الآداب التي قطفها أمس شرفاً أرفع، كان في أساس إبداعه ومحفّزاته موت شقيقه في سنّ اليفاع، ومذّاك لم يلتئم الجرح الذي غذّى كتاباته كلّها التي لم ينشد فيها أكثر من إعادة اكتشاف التاريخ والجذور، هو ابن المهاجرين إلى باريس زمن الاحتلال النازيّ والده إيطاليّ وأمّه بلجيكيّة . ورغم «التداوي» بالكتابة على طريقة الـ«كاثارسيس» اليونانيّة، إلاّ أن موديانو آثر دوماً الامّحاء خلف رواياته، معتبراً أنّ «الأنا» التي تتولّى السرد في رواياته ليست «ذاتاً» على نحو تامّ، بل هي «أنا» مندسّة إلى ثنايا النصّ الروائيّ بطريقة تكاد تكون حلميّة، مؤكداً على أنّ الكتابة ليست نهجاً للتعرّف إلى الذات، فالأنا غير استبطانيّة لديه ولا يهمّها اكتشاف من تكون.

شخوص روايات موديانو يكتنفها التردّد والريبة والخوف والغموض، ومسرح مصائرها باريس غالباً، المدينة التي منحت موديانو كل شيء، وجوده أوّلاً، ثم إلهامه الأدبيّ، إذ تتلمذ على الكبير ريمون كينو الذي احتضن موهبة موديانو طريّاً في الكتابة ومبتدئاً. وباريس منحته الحضن الأدبيّ الدافئ، نشراً وجوائز حاز غونكور، الأهمّ بين الجوائز الفرنسيّة ذات الشهرة العالمية ، والأهمّ أن باريس ألهمته المكان الأكثر ملاءمة لغوصه الروائيّ التاريخيّ في مرحلة الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازيّ لها، وهنا عَوْد على بدء، ففي تلك المرحلة ولد باتريك موديانو، وكثر غياب والده عن العائلة وانشغال أمه بمهنتها كممثلة، والأفدح والأشدّ إيلاماً وفاة الشقيق رودي، ما جعل تلك الحقبة زمناً مستعاداً باستمرار، من باب الجرح والحنين والجذور والأسئلة الوجوديّة الكبرى المفتوحة على كلّ شيء، بدءاً من سؤال الذات والسيرة الخاصة إلى سؤال الوجود نفسه، والحرب، والموت، والعلاقات، والزمن الهارب أو المفقود بحسب بروست ، لذا نعود إلى التراجيديا محرّكاً أوّل للإبداع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى