جولة «سياحية سياسية» عند «نقطة الصفر»!
نصار إبراهيم
اليوم أدعوكم للذهاب في جولة سياحية سياسية ممتعة، سنصعد معاً إلى حيث نقطة الصفر التي تقع على إحدى قمم جرود القلمون حيث تلتقي الحدود السورية اللبنانية، بالضبط حيث تعانقت يوم 27 آب 2017 أعلام سورية ولبنان وراية المقاومة…
جميل أن نصعد إلى تلك النقطة لنلقي نظرة كاشفة على أبعد مدى في محاولة لكي نفهم ما جرى، ذلك لأنّ الانشغال بالتفاصيل ومن زواية نظر ضيقة وعلى مساحة زمنية طويلة نسبياً تجعل من المستحيل في كثير من الأحيان رؤية المشهد العام المترامي والمتداخل والمعقد…
غير انّ نجاح هذه الجولة يشترط من المشاركين تجاوز ضيق الأفق الذي حكم وعلى مدار سنوات ما يسمّى بالربيع العربي سلوك وخطاب الكثير من السياسييين والإعلاميين والمثقفين العرب، بمعنى تجاوز خطاب الشحن والتقسيم الطائفي، وتجاوز المقاربات «التجارية» للصراع، تجاوز لغة الببغاوات، التي تردّد ما تسمع دون أن تفهم المعنى…
ونحن نقف عند نقطة الصفر تلك، ومن أمام الأعلام التي تتعانق قرب السماء لنحرّر أولا الوعي والمخيال، وأن نبذل الجهد العلمي الصادق لكي ندرك ونعي ما الذي جرى وما هي دلالاته… لنمدّ بصرنا غرباً نحو لبنان، ومن ثم شرقاً نحو سورية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ثم لنمدّه نحو البادية السورية التي تستعيد وجهها وصولاً إلى الحدود العراقية، ثم لنتجاوز الحدود حتى نصل إلى تلعفر التي تحتفل بانتصارها.
ومن هناك أيضاً لنمدّ النظر إلى «إسرائيل» لنقرأ جيداً ردود فعلها وضيقها ونزقها… ثم لنعرج على الحدود السورية الأردنية ثم لنصعد إلى أردوغان ولنحاول أن نفهم صمته وانكفاءه…
والآن لنستدر من حيث نقف قليلاً لنلقي نظرة على السعودية مروراً بقطر والإمارات واليمن… ثم لا بأس من عند نقطة الصفر هذه بنظرة تصل البيت الأبيض وتمثال الحرية، وبعدها لنحرف زاوية النظر لتشمل ساعة بيغ بن في لندن ثم برج إيفيل في باريس…
الآن نحن نقف عند نقطة الصفر… ألا توافقون معي بأنّ المشهد من هنا جميل ومدهش وفوق ذلك يغري بالابتسام!؟
هذا المشهد البانورامي يتجاوز في رمزيته ودلالاته اللحظة، إنه يعادل «رقعة شطرنج استراتيجية» تشهد نقلة حاسمة تتوّج سبع سنوات من الاشتباك الضاري بين جبهتين أو محورين أو خيارين أو مشروعين على كامل مساحة الجغرافيا السورية واللبنانية والعراقية.
هنا عند نقطة الصفر على ذرى القلمون وهناك في البادية السورية وغير بعيد عن الحدود السورية العراقية في تلعفر تسقط أسطورة داعش التي بشرنا الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأنّ الحرب ضدّها ستستمرّ لعقود طويلة…
مشاهد انهيار أسطورة جبهة النصرة وداعش التي جرى تصنيعها وترويجها ودعمها وتسليحها هو في ذات اللحظة سقوط مروّع لمشروع تفكيك الجغرافيا الوطنية والبنى الاجتماعية الوطنية كشرط لتدمير مفهوم الدولة الوطنية واستبدالها بكانتونات طائفية، وهذا بالضبط هو جوهر مشروح الحلف الأميركي الغربي الإسرائيلي التركي – الرجعي العربي.
الآن هنا وهناك تسقط داعش وتتهاوى بصورة غريبة، تلك الأسطورة التي اعتمدت استراتيجية الترويع والصدمة وبث الرعب في أوساط الرأي العام من خلال نشر صور ومشاهد إعدام الجنود العراقيين والسوريين والمصريين والطيار الأردني، وكذلك أسواق السبايا وذبح المواطنين والأطفال بطريقة مرعبة، وكلّ ذلك لإظهار جبروت هذا التنظيم بهدف شلّ وعي وقدرة الطرف الآخر على الفعل وردّ الفعل.
هنا عند نقطة الصفر في القلمون، وهناك في تلعفر في العراق، وهناك في أعماق البادية السورية وفي الجنوب السوري تتهاوى داعش وتنهار، ويستسلم مقاتلوها «الأشاوس» الذين لا تظهر «شجاعتهم وجبروتهم» إلا على أسرى مقيّدين في السلاسل أو محاصرين في الأقفاص أو ضدّ نساء وأطفال لا حول لهم ولا قوة…
اليوم من عند نقطة الصفر هذه نرى ونشاهد كيف تدخل المواجهة مرحلة الحسم الاستراتيجي وكيف تتلاقى استراتيجيات عميقة مباشرة وغير مباشرة اشتغلت وتراكمت على مدار سبع سنوات لتفعل في نفس اللحظة: استراتيجية الصبر الاستراتيجي، الدفاع الاستراتيجي، حماية الوعي الاجتماعي، الصمود الاقتصادي، استراتيجية التفاوض في سياق الاشتباك، استراتيجية الاشتباك الديبلوماسي على المستوى العالمي والأقليمي، استراتيجية التناغم والمناورة الذكية لأطراف حلف المقاومة، استراتيجية استنزاف الخصم وتقطيعه، استراتيجية خوض المواجهات وفق المعطيات ووفق القدرات ووفق اللحظة المناسبة، استراتيجية رباطة الجأش في مواجهة استفزازات العدو وعدم الذهاب إلى معركة أو مواجهة يقرّر هو مكانها وزمانها، استراتيجية استثمار أوراق القوة بأعلى قدر من الحكمة، استراتيجية المصالحات الاجتماعية لحماية النسيج الاجتماعي وفتح نوافذ الأمل، استراتيجية دفع العدو لحرق أوراقه واستنزافها بالتدريج، استراتيجية استثمار الوقت بأعلى ما يمكن لتنكشف أوراق اللاعبين المخفية ونفاق سياساتهم وازدواجية المعايير وإسقاطها سياسياً وأخلاقياً…
اليوم، أقصد الآن تنكشف الكثير من أبعاد المواجهة التي كانت تدور عميقاً وبما يغطي جغرافيا العالم، والتي كانت أهدافها تتقاطع على إسقاط الدولة الوطنية السورية ونشر ثقافة التكفير والطائفية وتغيير سلّم الأولويات من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لتصبح الأولوية مواجهة ما يسمّى الخطر والتمدّد الإيراني، وتدمير العراق وتمزيقه، وفي السياق السيطرة على مصادر الطاقة والغاز في الشرق، ومحاصرة روسيا وحشرها في نطاق جغرافيتها الضيقة فيما الدرع الصاروخية للناتو تطلّ على موسكو من كلّ الجهات… ومحاصرة الصين وراء بحرها وحدودها في أقصى شرق آسيا… وجعل مشروع الإسلام السياسي التكفيري قوة الهيمنة الثقافية والاجتماعية بما يعطي لممالك الرمال وأموالهم المجال لكي يقرّروا مصير الأمة العربية وفق استراتيجيات الهيمنة والخضوع الأميركية الغربية لعقود طويلة قادمة.
من عند نقطة الصفر تلك على جرود القلمون سنفهم الآن وبوضوح أكذوبة داعش والنصرة التي اخترعوها وأوهموا الكثيرين باستحالة هزيمتها، فإذا بها تنهار ككومة قش أمام رجال المقاومة البواسل ورجال الجيش السوري والجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي والقوى الحليفة كلها.
إذا أدركنا كلّ ذلك ووعيناه سندرك أيضاً ما هو أبعد ألا وهو التغيّر الدراماتيكي في مواقف الدول والحكومات، وخاصة تلك التي أدمنت معادلة الأيام المعدودة للرئيس بشار الأسد، وتلك التي كانت تردّد لازمة لا حلّ إلا برحيل الأسد الذي ليس له مكان في سورية… هكذا كانوا يقولون حتى اللحظات الأخيرة…
ولكن لماذا كانوا يقولون ذلك؟ وعلى ماذا كانوا يعتمدون!؟
بالتأكيد لم يكن هناك أيّ رهان جدي وعملي على تدخل مباشر للجيوش الأطلسية، فهذا خيار سقط في السنوات الأولى للمواجهة وخاصة بعد مشكلة الكيماوي وانكفاء الأساطيل الأميركية وبعدها الحضور الروسي الحاسم… إذن ما هي الأداة التي كانت تجري عليها الرهانات لقهر الجيش العربي السوري والمقاومة وتحطيم الدولة الوطنية السورية ودفع العراق إلى حالة استنزاف لا نهاية لها!؟
لقد كان الرهان فقط على التنظيم المرعب داعش وشقيقته النصرة بالإضافة إلى المجاميع الإرهابية التي استقدموها وسلحوها بالفتاوى والسلاح والحماية السياسية والعسكرية.. مع تغطية إعلامية ومالية هائلة.
هذا هو الرهان الذي راهنوا عليه…
ولكن اليوم… من هنا من عند نقطة الصفر في القلمون ومن قلب مدينة تلعفر ومن أعماق البادية السورية، ومن حلب ودمشق وبغداد.. يمكن أن نشاهد سقوط هذا الرهان وانهياره المتسارع… بما يعني أنّ «اللعبة» بالمعنى الاستراتيجي قد انتهت… أو هي في مرحلة تصفية الحساب.
«رامبو» داعش والنصرة الذي اخترعوه وأطلقوه بكامل وحشيته يتلقى الآن الصفعات.. ويلوذ بالفرار، يستسلم، ويباد، وتركب فلوله المنكسرة الباصات الخضراء التي تمضي بهم نحو مصيرهم المحتوم… بعد أن فشلوا في تأدية الوظيفة التي طلبت منهم.
هذا بالضبط هو الذي غيّر المعادلات، وهذا بالضبط ما عناه الرئيس الأسد في كلمته التي ألقاها في مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين في 20 آب 2017 حين قال: «الإنجازات العسكرية لقواتنا المسلحة كانت هي الحرب وكانت هي السياسة … هؤلاء «الثوار» بلا وزن، إنهم أدوات تستخدم لمرة واحدة ثم تلقى في سلة المهملات، مثل الأدوات الطبية، لكن الفرق أنّ الأدوات الطبية معقمة، أما هم فأدوات ملوّثة لا يمكن معها إعادة التدوير والاستخدام لاحقًا».
من هنا من عند نقطة الصفر نفهم الآن تصريحات وزير الخارجية البريطاني ومثله الفرنسي وقبله الأميركي: انّ رحيل الأسد لم يعد شرطاً للحوار… وعليكم المقصود أدواتهم في المعارضة أن تتصرفوا على أساس أنّ الأسد باق… نقطة آخر السطر.
وبالمناسبة وكي لا يخطئ أحد… هذه المواقف والتغيّرات.. ليست كرماً ولا تنازلاً.. بل تمّ فرضها بقوة النار والميدان.. لقد تمّ فرضها بعد أن أنهارت أسطورتهم بصورة مهينة وبائسة على امتداد الجغرافيا السورية اللبنانية العراقية.
هنا… أترك المشاركين في هذه الجولة السياحية الخاصة لكي يتجوّلوا عند نقطة الصفر وليلتقطوا الصور التذكارية… والأهمّ أن يعيدوا قراءة الأحداث من البداية حتى الآن… حينها سينكشف المشهد بدرجة عالية من الوضوح والتناغم…
أما أولئك الذين يغامرون ويواصلون دفن رؤوسهم في الرمال كنعامة حمقاء من سياسيين ومثقفين وإعلاميين عرب.. فليواصلوا ما يجيدونه… ليواصلوا عماهم السياسي، ليواصلوا النفخ في بؤس ثقافتهم وخياراتهم الطائفية المقيتة، وفي ذات اللحظة أنصحهم بأن لا ينسوا البكاء على «أسطورتهم» المنهارة.. وأيضاً على حلفهم الفاشل الذي وضعوا في سلته كلّ بيضهم الفاسد بناء على وعود لم يكن يملك شروط تحقيقها… وسواء أقرّوا بهذه الحقيقة أم لا، وسواء أقنعتهم هذه الجولة السياحية – السياسية أم لا.. فهذا لن يغيّر من الواقع شيئاً… ذلك لأنّ الحماقة هكذا تعيي من يداويها…. فمن له أذنان فليسمع… ومن له عينان فلينظر…