هل يُقدِم نتنياهو على اغتيال أبو مازن؟
رامز مصطفى
أفرغ الرؤساء والملوك والأمراء، ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، ما في جعبتهم من رؤى ومواقف، وحتى برامج. أنهت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها السنوية التاسعة والستين. وليس بالضرورة أن تكون متوافقة مع بعضها البعض، والعكس صحيح، في ما تعرضه من مواقف، وتقدمه من اقتراحات غير ملزمة. ولكن الولايات المتحدة تحاول على الدوام، ورئيسها الذي يلقي كلمته محاولاً التأثير على مجريات ووقائع الجلسات، راسماً الخطوط العريضة للسياسات الدولية، وما يتوجب القيام به من خطوات وحتى برامج وخطط، وتعبث بمصائر الدول وشعوبها.
فهذه الدولة الغاشمة تتعاطَى من موقع أنها السيدة الاولى للعالم، وحامية حقوق الإنسان، وحارسة للقيم والحريات الديمقراطية. وهي تسعى قبل انعقاد الدورة وخلالها، إلى حشد الدول المؤيدة لها، سواء بحكم التبعية، أو بالتهديد والوعيد. وذلك بهدف تأمين استمرار قيادتها للعالم كقطب أوحد فيه.
صحيح أنّ الجمعية العامة أنهت دورتها، ولكن لم تنته معها الانتقادات الحادّة واللاذعة التي وجهتها الإدارة الأميركية ومعها نتنياهو، بحق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي كان قد ألقى كلمة فلسطين في هذه الدورة، والتي تضمّنت مواقف وُصفت بالمتقدمة عن سابقاتها من الكلمات. خطاب استحوذ على تعاطف البعض من المجتمعين تحت سقف الأمم المتحدة، دفع الحكومة السويدية إلى التصريح، أنها عازمة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية. هذا التصريح أزعج نتنياهو، الذي طلب استدعاء السفير السويدي وإبلاغه رفض «إسرائيل» له. فيما اعتبرت الإدارة الأميركية أنه «سابق لأوانه».
كلام أبو مازن في الأمم المتحدة، من الواضح أنه لم يُطرب الأميركيين و»الإسرائيليين»، واعتبروه نشازاً استدعى ردّاً فورياً وعنيفاً. حيث خصص رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو جلّ خطابه أمام الجمعية العامة للهجوم على أبو مازن، وتحميله مسؤولية ما لحق بالفلسطينيين بسبب توافقه واتفاقه مع حركة حماس. هذا الهجوم السياسي المنسق بين الأميركيين و»الإسرائيليين»، يأتي في محاولة لقطع الطريق على توجهات فلسطينية ومنعها من الذهاب إلى مجلس الأمن لتحديد سقف زمني للمفاوضات ومن ثم الانسحاب من «الأراضي المحتلة عام 1967، من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المفترضة في إطار حلّ الدولتين». مضافاً إلى ذلك الحيلولة دون استكمال الانضمام الفلسطيني إلى الهيئات والاتفاقات الدولية، وفي المقدمة منها محكمة الجنايات الدولية. ولم يشفع لأبي مازن، أنه لم يعلن أو يهدّد بالتراجع أو التخلي عن رؤيته السياسية القائمة على «أن لا بديل عن المفاوضات إلاّ المفاوضات» ويتمسك حتى اللحظة بالتنسيق الأمني. وهذا ما أكد عليه في كلمته، مُجدّداً تمسكه بالسياق التفاوضي مع «الإسرائيليين»، وإنْ كان شدّد على عدم موافقته على العودة إلى السياق والطريقة السابقة لهذه المفاوضات، حيث «إسرائيل» تعمل على فرض شروطها ورؤيتها ووقائعها على الفلسطينيين.
الهجوم الذي شنه نتنياهو ولا يزال، لم يقف عند حدوده، بل تعداه إلى مجموع المكوّنات والأحزاب السياسية في الكيان بمسمّياتها «اليمين واليسار»، التي وصفت خطاب أبو مازن أنه مفاجئ وغير مسبوق، وقد أعاد الثقة بين الشعبين إلى الوراء أعوام ثلاثة. وتابعت أنّ خطاب أبو مازن من شأنه أن يقوّض «عملية السلام». وتتطوّر المواقف «الإسرائيلية» التي يعتبرها البعض أنها من باب التهويل، لدفع السلطة إلى التراجع عما عبّر عنه من مواقف اتسمت بالحدّية تجاه الكيان وحكومته وقادته.
هذه المواقف تتجه إلى تصعيد غير مسبوق، سواء في تسريع الخطى حثيثاً نحو فرض المزيد من الوقائع الميدانية في الاستيطان وتهويد مدينة القدس، التي تتعرّض هذه الأيام لحملة مركزة بهدف الاستيلاء على المسجد الأقصى وباحاته من قبل قطعان المستوطنين. والبعض الآخر في الكيان يستغلّ الخطاب، واجداً فيه ضالته المنشودة وتحديداً نتنياهو للهروب إلى الأمام، من خلال الإفصاح عن مواقفه وتحديد فهمه للتسوية، وأنّ موافقته على حلّ الدولتين، لا يعني بأيّ شكل من الأشكال، الانسحاب من الضفة الغربية، بل البقاء فيها ضمن ترتيبات أمنية ولسنوات طويلة.
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة، هل الحملة «الإسرائيلية»، وتلويح قادة الكيان، في معرض ردّهم على أبي مازن وما جاء في خطابه، أنهم عازمون على البحث عن فلسطينيين معتدلين يكملون المفاوضات معهم؟ هل تندرج في سياق خطة متكاملة للتخلص من أبي مازن؟ عبر التمهيد باغتياله سياسياً مقدمة لاغتياله جسدياً على طريقة الشهيد الراحل أبو عمار؟ ولكن في المقلب الآخر سؤال محق ومشروع… هل بعد الذي قدمه والتزم به أبو مازن خلال العقدين الماضيين من الزمن كأحد أهمّ مهندسي «اتفاق أوسلو»، وهو الذي رفض المقاومة، وأدان عمليات المقاومة ضدّ الكيان الصهيوني، ووصفها أكثر من مرة بأنها إرهابية. من الممكن أن تقدم «إسرائيل» على اغتياله، في ظلّ أنّ الضفة الغربية بركان انتفاضتها يتأجّج بشكل تصاعدي، بسبب ممارسات وسياسات قوات الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.
ناهينا عن أنّ مفاعيل تجدّد القتال على جبهة قطاع غزة لا تزال قائمة؟ وهل الإدارة الأميركية ستوافق على ذلك، في ظلّ منطقة ملتهبة، لا تريد لفت الأنظار مجدّداً نحو القضية الفلسطينية؟ خصوصاً أنّ اللقاء الأخير بين أوباما ونتنياهو، لم يكن ودياً، على عكس ما روّجت له وسائل الإعلام. وهل قادة الكيان وفي ظلّ العزلة الدولية المتزايدة التي تعاني منها «إسرائيل»، بسبب جرائمها ومجازرها بحق الشعب الفلسطيني، وليس آخرها ما تعرّض له قطاع غزة خلال العدوان لواحد وخمسين يوماً… هل هؤلاء قادرون على تجاهل هذه الضغوط جراء هذه العزلة؟ رغم ذلك ليس هناك من يضمن، أو من لديه القدرة على كبح الجماح الإجرامي لهذا الكيان العنصري، الذي يحفل تاريخه الإرهابي بسجلّ أسود من الجرائم والقتل والاغتيال بحق عشرات الآلاف من أبناء أمتنا وشعبنا وقياداته ومقاوميه. والتاريخ القريب شاهد على اغتيال الرئيس الراحل أبو عمار على يد الكيان وأجهزته الأمنية. ولم يشفع للراحل عرفات توقيعه على «اتفاق أوسلو»، والذي تنازل بموجبه عن 78 بالمائة من أرض فلسطين التاريخية. اغتيل عرفات لأنه لم يمض قدماً في التنازل عن القدس وحق عودة اللاجئين. وتحوّل إلى عبء على العملية السياسية على المسار الفلسطيني «الإسرائيلي».
هل انتهى بحسب السياسة الأميركية – «الإسرائيلية»، العمر السياسي الافتراضي لرئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس؟ ولا بدّ من الانتهاء منه، على اعتبار أنّ المرحلة القادمة لا تتوافق واستحقاقاتها مع بقاء واستمرار أبو مازن، الذي من الواضح أنه قد وصل إلى مكان لم يعد بمقدوره الاستجابة لكلّ الاحتياجات والمتطلبات السياسية والأمنية «الإسرائيلية»، التي لا حدود لها.