نحو معادلة متكاملة: الشعب والجيش والمقاومة و… الدولة؟

د. عصام نعمان

طوى لبنان صفحة «داعش» عسكرياً، لكنه لم يطوِ صفحة الإرهاب أمنيّاً. ما زال في وسع الإرهاب، عقيدةً وتنظيماتٍ وذئاباً منفردة، أن يُضلّل ويمزّق ويقتل ويدمّر.

هذا التحدّي المتجدّد يزيد أزمة لبنان المزمنة تعقيداً، الأزمةُ بما هي ظاهرة اللادولة. لا دولة في «لبنان الكبير» مذّ أنشأته سلطة الانتداب الفرنسي العام 1920 بل نظام هو عبارة عن آليّة mechanism لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ بين أركان شبكة سياسية قوامها متزعّمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال، ومتنفّذون في أجهزة أمنية.

النخبة الوطنية المستنيرة تمرّدت، بأشكال مختلفة، على هذه الصيغة السياسية المتخلّفة طلباً للحرية والعدالة والإصلاح والديمقراطية. أفعلُ حركات التمرّد تجسّدت في مقاومة الاحتلال «الإسرائيلي» منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. نجحت، على التوالي، في طرد الجيش «الإسرائيلي» من الشريط الحدودي المحتلّ العام 2000، وفي دحر العدوان في حرب «إسرائيل» على لبنان العام 2006، وفي سحق الإرهاب التكفيري الداعشي، بالتعاون مع الجيش اللبناني والجيش السوري، أواخرَ شهر آب الماضي.

انتصارات المقاومة لم تقترن بأيِّ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وازنة. مردُّ هذا القصور عاملان: حرصُ قيادة المقاومة على إعطاء أولوية مطلقة لمواجهة الكيان الصهيوني والإرهاب التكفيري من جهة، والحرص من جهة أخرى على عدم استثارة حساسية تكتلات طائفية نافذة ومتخوّفة من انعكاس انتصارات المقاومة على الموازين السياسية الداخلية الدقيقة.

في سياق بناء جبهةٍ وطنية عريضة داعمة، رفعت قوى المقاومة شعارَ معادلةٍ تعبوية: الشعب والجيش والمقاومة. «المعادلة الذهبية» تلك فعلت فعلها إذ استقطبت بين اللبنانيين غالبية عابرة للطوائف وداعمة لمطلب مواجهة «إسرائيل» والإرهاب.

لتطويق تداعيات انتصارات المقاومة على المشهد الداخلي ومصالحها السياسية، رفعت القوى المعادية للمقاومة شعاراً مضاداً: الشعب والجيش والدولة، بمعنى أن تكون الدولة بديلاً من المقاومة في مواجهة أعداء البلاد، الأمر الذي يستوجب، في ظنّها، إلغاء تنظيمات المقاومة، لا سيما حزب الله بما هو فصيلها القائد والبالغ الفعالية.

إلى شبهةٍ فاقعة تطبع هذا الشعار الملغوم، فإنه يشكو من نقص فادح وفاضح هو عدم وجود دولة في لبنان بالمفهوم الحقوقي والسياسي والمؤسسي المتعارف عليه. أما «الدولة» القائمة، بما هي نظام طوائفي كونفدرالي زبائني فاسد، فهي أعجز من أن تنهض بمهمة بناء جيش وطني مقاتل ناهيك عن اتخاذِ قرارٍ حاسم بمواجهة «إسرائيل» والإرهاب.

غير أنّ كلّ هذه العوائق والنواقص والتحدّيات لا تلغي مطلب بناء دولة مدنية ديمقراطية على أسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية بل لعلها تستعجل مهمة بنائها. في هذا السياق تتجلّى بضع تطورات وظاهرات يمكن البناء عليها:

أولاها، نشوء جمهور واسع عابر للطوائف ورافض للنظام الطوائفي الكونفدرالي الفاسد، ومتمرّد على الشبكة السياسية الحاكمة وممارساتها الفاضحة.

ثانيتها، اقتناع عامّ بأن لا سبيل إلى تجاوز النظام الطوائفي الفاسد بالعنف المنزلق بالضرورة لحرب أهلية، ولا من خلال «مؤسسات» أو أجهزة النظام المترهّل والمتداعي.

ثالثتها، تطوّر الاجتماع السياسي اللبناني من وجود ثماني عشرة طائفة إلى تشكّل ثلاث ظاهرات جامعة ووازنة: تيار عام يجمع سياسياً الطوائف المسيحية كافة، وتكتل سنيّ، وثنائية شيعية. هذه التكتلات متكافئة عددياً ويغطي انتشارها المناطق اللبنانية كلّها. ولعلّ تشكّلها على هذا النحو يساعد في تلطيف المنافسات والصراعات السياسية التي تدور في ما بينها.

رابعتها، إخفاق الشبكة الحاكمة في صوغ قانون للانتخابات على أساس النسبية في دائرة وطنية واحدة تسهيلاً لتطبيق المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلسين، واحد نيابي على أساس وطني لاطائفي، وآخر للشيوخ من أجل تمثيل الطوائف ويختصّ بالقضايا المصيرية. فوق ذلك، ارتبك أهل النظام حيال قانون الانتخابات الجديد ومفاعيله المحتملة، برغم تشويهه النسبية وصحة التمثيل وعدالته لدرجة حملتهم، كما يبدو، على عدم إجراء الانتخابات الفرعية ما يؤشر إلى احتمال عدم إجراء الانتخابات العامة مطلعَ شهر أيار 2018.

خامستها، اتساع الوعي بضرورة الخروج من الأزمة المزمنة وتداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكارثية بمبادرة سياسية وطنية وتحرّك شعبي واسع يتوسّل المقاومة المدنية ضدّ أهل النظام بغية حملهم على تعديل قانون الانتخابات، وذلك باعتماد الدائرة الوطنية الواحدة كشرط لكفالة صحة التمثيل وعدالته وضمانة لتوحيد اللبنانيين بوضعهم جميعاً على مستوى البلاد برمّتها أمام التحديات نفسها والقوى المتصدّية لها ببرامج سياسية وتنموية جامعة.

ولعلّ في الضائقة السياسية التي تعانيها قيادات التكتلات الفئوية الثلاث المار ذكرها فرصة للقوى الوطنية والتقدّمية الحية، كما للقيادات المستنيرة والمسؤولة في تلك التكتلات للضغط بغية تعديل قانون الانتخابات وفق الأسس المار ذكرها، ومن أجل إجرائها بلا إبطاء في مطلع شهر أيار المقبل.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى