نظرة سيكولوجيّة في قصص «كمّستير» لجعفر العقيلي 1

د. علاء محمد شدوح

إنّ النصّ الأدبيّ ـ أيّ نصٍّ ـ هو عبارةٌ عن بنيةٍ متكاملةٍ تجتمع فيه العناصر الفنية والجمالية لتجعل منه منظومةً معرفيةً متينةً تستحق القراءة الفاحصة عند الناقد، ليتسنّى له بعد ذلك أن يولّد نصاً على نصٍّ.

ومن الركائز المهمّة في هذه المنظومة، الجوانب النفسية والعاطفية التي يسقطها المبدع على نصّه لتنتشر فيه، ولتؤثر ـ إيجاباً أو سلباً ـ في بنيته. فللعملية الإبداعية ـ كما قال فرويد ويونغ ـ علاقةٌ وطيدةٌ جداً بعلم النفس، وللتفسير النفسيّ للأدب ضرورةٌ ملحةٌ ـ كما قال خريستو نجم ـ للوقوف على الانفعالات التي تخصّ المبدع من جهة، والنصّ من جهةٍ أخرى.

ومن هذا المنطلق يحاول الباحث هنا، أن ينظر نظرةً سيكولوجيةً إلى المجموعة القصصية كمستير للقاصّ الأردني جعفر العقيلي «الآن ناشرون وموزعون»، الطبعة الثانية، 2017 ، من غلافها الأول وحتى الثاني، محاولاً أن يرصد بعض الدلالات النفسية التي تجلّت في هذه النصوص القصصية.

لو وقفنا على العتبة الأولى للمجموعة، وهي الغلاف، لوجدنا فيه لوحةً فنيةً تشكيليةً بريشة فنانٍ أميركيّ اسمه جان دايفيس، وبصرف النظر عمّا تحويه هذه اللوحة من ألوان ودلالاتٍ نفسية، فإنّه من غير المألوف أن تتصدّر لوحةٌ فنيةٌ بريشة فنانٍ أميركيّ قد لا يعرف عن النصوص الأدبية العربية شيئاً، مجموعةً قصصيةً محكمة التأليف لمبدعٍ عربيّ يتقن إبداعه كالعقيلي. وإنّه لا يخفى على أحدٍ أنّ الغلاف هو عتبةٌ مهمةٌ جداً للولوج إلى النصّ، ولا يخفى أيضاً أنّه يجب على المبدع أن يتدخّل ـ بصورةٍ أو بأخرى ـ تدخّلاً ذكياً بالغلاف الذي يحوي نصوصه الأدبية، فكان من الأولى أن يقوم بهذا العمل فنانٌ عربيٌّ يستطيع المواءمة بين عنوان المجموعة ونصوصها، وبين اللوحة وألوانها ودلالاتها.

أمّا العتبة الثانية في المجموعة، وهي الإهداء، فنلاحظ أنّ فيه مسحةً عاطفيةً قويةً تجاه الشخص المهدى إليه، وهي زوجة القاصّ الكاتبة والناقدة هيا صالح. فعبارة من جديد توحي لنا بصلةٍ وثيقةٍ جدّاً بينه وبينها: ثقافياً وكأنّها هي المحفّز الأول لا الأخير له ليكتب ويبدع، وإنسانياً إذ يعدّها وطناً أخيراً لا يستطيع اللجوء إلّا إليه، ونفسيّاً لأنه يرى فيها حرّيته التي لولاها لما ذاق طعمها ولما تنفّسها.

والعتبة الأخيرة للمجموعة هو عنوانها «كمّستير»، وهو عنوانٌ للعبة أطفالٍ مشهورةٍ، قام العقيلي بإسقاط اسمها وآليتها على قصّةٍ من قصص المجموعة، لكنّ السؤال هنا: لماذا اختار القاصّ هذا العنوان من بين أحد عشر عنواناً ليكون عنواناً رئيساً للمجموعة؟ فمن باب أنّ تأويل العنوان هو مسحٌ قبليٌّ لمقصدية المبدع، فلعلّ الإجابة ـ في نظر الباحث ـ تكون في أنّ عدداً كبيراً من قصص المجموعة تكاد تكون ألعاباً مع الذات أو النفس، وهذه الألعاب تتنوّع بين الألعاب ـ الأبعاد ـ الاجتماعية والعاطفية والسياسية والثقافية. فيحاول العقيلي من خلال هذا العنوان أن يجمع بين براءة الطفولة وتشظّي الرجولة وأن يقارن بينهما، وكأنّه يريد أن يبوح إلى القرّاء بأسرار كثيرة من خلال لعبة، وهذا ما يسمّى في علم النفس التداعي الحرّ والذي من خلاله يتكلّم الشخص بحرّيةٍ عمّا في دواخله حتى يرتاح.

وبالتالي فإنّ عنوان «كمّستير» يجمع بين الماضي والحاضر والمقارنة بينهما، لا سيما ذلك الزمن المعلّق بينهما، وهو الزمن العمريّ الذي ذكره العقيلي مرّاتٍ عدّة في أكثر من قصّة وهو غيمات عمره الثلاثين، هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي اعتراها الغموض. فجاء اختيار العقيلي للعنوان اختياراً موفقاً من الناحية الفنية والرمزية والنفسية، ليبوح لنا من خلاله بأسرار كثيرة.

وبعد الوقوف على العتبات الثلاث، سنحاول الإشارة إلى بعض الدلالات النفسية في هذه المجموعة، وسنبدأ ممّا يسمّى الانفصال عن الذات، حيث استخدم العقيلي هذا الانفصال في أكثر من قصّة بأشكال مختلفة، فنلاحظ في قصّة «تصفية حساب» أنّ القاصّ أو السارد كان ينسلخ عن نفسه من خلال سرده أحداث القصّة، وكأنّه شخصٌ ثالثٌ رغم أنّه احتلّ نصف بطولة القصّة، في وقتٍ احتلّ الزائر نصف البطولة الآخر: «عاينت أعضائي وانفعالاتها إزاءه بوصفي آخر . كأنّني انفصلت عنّي. كأنّ ثالثاً بيننا أنا وهو، أو كأنني ثالثٌ بيني وبينه!». ص 10 .

ونلاحظ في قصّة «كمّستير» كيف انسلخ القاصّ عن ذاته عندما واجه المرآة، وكيف كان يرغب في أن يلعب مع نفسه أو ذاته أو قرينه لعبة «الكمستير»، هذه الرغبة التي لم تتحقّق منذ ثلاثين سنة. ونلاحظ كيف حاول البطل ـ السارد ـ أن يُظهر الوجه الموجود داخل المرآة على حقيقته، حيث لم يجد ألفةً تجاهه منذ معرفته به، فهو وجهٌ أو رأسٌ مليءٌ بالسلبيات إلى درجةٍ وصل فيها أنه قد عرضه للبيع: «حينها راودتني رغبتي التي بدأت منذ ثلاثين سنة ونيّف وما زالت عصيّةً على التحقّق أن ألعب الكمستير مع قريني أغافله وأمسك به». ص 28 .

ولا يختلف الأمر عمّا ورد في قصّة «وجه وأقنعة»، حيث تقمّص القاصّ دور «أسعد» الذي أخذ دور البطولة في القصّة، والذي كان يملك مجموعةً من الأقنعة السلبية كالكذب والخيانة والسرقة… إلخ، وهذا يعدّ شكلاً آخر من أشكال الانفصال عن الذات. ولكلّ هذا وذاك دلالاتٌ نفسيةٌ عميقةٌ تكمن في أنّ السارد ـ البطل ـ كان يعيش حالةً من الاغتراب، فالانسلاخ عن الذات هو اغترابٌ نفسيّ يقوده إلى رحلة البحث عن الذات مرّةً أخرى، ولهذا الاغتراب في المجموعة أسبابٌ منها: الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، تدور حول المجتمع الذي يعيش فيه القاصّ، فالقطيعة بين الإنسان وذاته عند علماء النفس سببها القطيعة بين الإنسان ومجتمعه.

فلو أخذنا مثالاً على الناحية الثقافية لوجدنا في قصّة «تصفية حساب» إشارةً إلى علاقة القاصّ بالكتابة، وللاحظنا كيف جعل من بطلٍ قصصيّ متخيّل، بطلاً لقصّةٍ مستقلّة يزوره ويلقي عليه مجموعةً من الأوراق ليصوّب المسخ الذي صنعه له، ليؤدّي هذا بالتالي إلى استسلام القاصّ لغواية الكتابة والبحث عن الذات: «أنا بطلك! من لحم ودم. نعم! ألست تؤمن أنّ أبطالك حقيقيّون؟! لم تكن تبالغ. أنا أحدهم!». ص 12 ، ثمّ: «حين تيقنّت أنه غادر فضائي، استعدت مكاني الذي استباحه، وتشبّثت به مستسلماً لغواية الكتابة». ص 13 .

ونلاحظ في قصّة «علامة فارقة» أنّ تعلّق البطل بالشعرة في حاجبه يدلّ على رغبته في استئناف علاقته مع الكتابة، وأنّ موت الشعرة يعني توقّفه عن الكتابة: «عندها، دعوت الله أن يطيل عمرها، شعرتي، وأن يبقيها إلى جانبي حتّى أنتهي من الكتابة». ص 21 . «هي قصّةٌ جديدة إذن» ص 19 . «إلهي وأنت جاهي، ألهمني الصبر لأجتاز مِحنتي وأواصل الكتابة». ص 23 .

ولنأخذ مثالاً آخر على الناحية الفكرية في قصّة «كمّستير»، حيث وجّه القاصّ نقداً لاذعاً لرأس الإنسان المعطّل من التفكير والمقيّد بأفكار مغلقةٍ وسلبيةٍ ولا يستطيع أن يخلّص نفسه منها، وشبّهه بقطعةٍ قديمةٍ لا قيمة لها معروضةٍ للبيع في حانوت قديم. ورحلة البحث عن الذات في قصّة «كمّستير» كانت واضحةً وجليّةً خصوصاً عندما قام البطل بكسر المرآة، وهذا لا يعني بالضرورة أنّه قد وجد ذاته، أو أن يكون القارئ قد وجدها أيضاً.

ومن الأدلّة أيضاً على الانفصال عن الذات والبحث عنها، حديثه بكثرةٍ عن المرآة بالمفرد أو المرايا بالجمع، كما في قصّة «كمّستير» ص 29 ، وقصّة «تعايش» ص 35 ، وقصّة «علامة فارقة» ص 17 ، وقصّة «مسافة كافية» ص 52 ، وقصّة «وقت مستقطع» ص 62 . ولهذا دلالاتٌ نفسية عميقة، إذ إنّ الذات القاصّة التي تحدّق بنفسها في المرآة موجودةٌ وحاضرةٌ بقوّة، باعتبار أنّ المرآة تنقل ما هو أمامها كاملاً من دون نقص، لكنّ هذه الذات تريد من خلال المرايا العبور إلى عوالم أخرى أو اكتشاف صفات جديدة ـ سلبية أو إيجابية ـ تخصّها وتريد البحث عنها. ولعلّ نظر الشخصية القصصية إلى المرآة بكثرةٍ يعود إلى أكثر من سبب منها: التعلّق الزائد بالذات، أو القلق المستمرّ على كلّ ما قد يؤذي تلك الصورة من نقائص أو عيوب خُلقية أو خَلقية، أو البحث عن وجوهٍ أخرى لهذه الذات.

أكاديميّ وناقد أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى