نظرة سيكولوجيّة في قصص «كمّستير» لجعفر العقيلي 2

د. علاء محمد شدوح

لا بدّ لنا من تذكّر أنّ المرايا في هذه المجموعة تتقاطع مع الأقنعة الموجودة في قصّة وجه وأقنعة، لا سيما أنّ كل هذه الأقنعة كانت تنحى منحىً سلبياً كالخيانة والكذب والنفاق… إلخ، إضافةً إلى ذلك، إنّ إغلاق البطل أسعد للصندوق المليء بأقنعته السلبية بضيقٍ يتقاطع مع كسر البطل للمرآة في نهاية قصّة «كمّستير»، فالأول يريد الهروب من ماضيه المؤلم الذي يتلخّص بذات سيئة احترفت ارتداء الأقنعة السلبية ـ على اعتبار أن القناع يتعلق بالماضي فقط ـ والثاني يريد الفرار من اللعبة مع الذات أمام المرآة، لأنّه لم يجد ما يكمّل به النقص الذي اعترى هذه الذات أمام المرآة، سواء كان هذا النقص حدث في الماضي أم في الحاضر ـ على اعتبار أنّ المرآة تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل.

أمّا عن تقنية الاستدعاء أو الاسترجاع فهي حاضرةٌ في المجموعة القصصية، ففي قصّة «علامة فارقة» يسترجع البطل العادات اللاإرادية التي كان يفعلها في الماضي كطقطقة الأصابع ومداعبة الشوارب وتحريك اللسان بحثاً عن بقايا طعام ص 19 ـ 20 . وفي قصّة «تنازلات» يسترجع البطل الأحداث الصباحية منذ لحظة استيقاظه على رنّة الهاتف، إلى أن وجد ربطة عنقه في سلّة الغسيل ص 72 ـ 73 .

ولهذا الاسترجاع دلالاتٌ نفسية تتجلّى في ما سمّاه فرويد النكوص regression ، وهو الهروب إلى الماضي للتخلّص من الواقع، فالتواري خلف ستارة الماضي بكل تفصيلاته وجزئياته أقرب إلى النفس البشرية. ونلاحظ أيضاً أنّ النكوص الموجود عند أبطال العقيلي جاء اختيارياً وليس إجبارياً، فثمة فرقٌ بينهما، فالاختياري يتحكّم به المبدع ليخدم الغرض الذي يريد إيصاله للقرّاء، أمّا الإجباري فيتعلق بعلماء النفس وعلاجاتهم بطرق مختلفة لمرضاهم كالتنويم المغناطيسي وغيره. ناهيك عن أنّ الحركات اللاإرادية التي تصدر عن الإنسان تدلّ على اتجاهات أو اضطرابات معينة في الشخصية ـ وفق علم النفس ـ وتكون ناجمة عن أسباب نفسية بحتة، خاصةً إذا لم يتسنّ للشخص التفريغ بالكلام أو التعبير اللفظي.

وبذلك يمكن القول إنّ العقيلي استخدم تقنية الاسترجاع أداةً لهروب أبطاله من واقعهم الذي يعيشونه بكل تفصيلاته، والولوج في أعماقهم النفسية بما فيها من آلام وأوجاع. وتجدر الإشارة هنا إلى أن البطلين في قصتي تنازلات وعلامة فارقة أصيبا في حالة شرود، وهي الحالة التي يصاب بها الإنسان المكبوت، إذ إن المكبوتين يتخيّلون المشاهد تخيّلاً كما قال فرويد: «كل ذلك وأكثر توالى إلى مخيلته وهو يواصل طريقه إلى مكتبه». ص 73 و«في خلوتي، وجدتني متلبّساً بملاطفة شعرتي فيما كنت أفكر بمسألة تهمّني». ص 19 .

وللحلم في مجموعة «كمّستير» حضورٌ مميز، خاصةً في قصّة «وجه وأقنعة»، إذ استخدمه العقيلي بنوعيه: الحلم الحقيقي وحلم اليقظة، فجاءت القصّة كاملة بأحداثها وشخوصها وجميع عناصرها على شكل حلم، أو أحلام هلوسات، لأنّ هذا الحلم كان ناتجاً عن حمّى: «صحوت فزعاً، تلمّست أعضائي غارقاً في الحمّى، قبل أن أتنفّس شيئاً من الصعداء وقد أدركت أنّ ذاك ممّا يحدث في المنام». ص 48 . ومن اللافت أيضاً أنّ العقيلي قد استخدم حلم يقظةٍ داخل الحلم الرئيس: «اقتربت من الصندوق خاصّتي وفتحته كأنما يوحى إليّ، فانسلّت أقنعةٌ كثيرة الواحد تلو الآخر، أقنعة رأيتني أرتديها». ص 47 . ومن المعروف في علم النفس ـ وتحديداً عند يونج ـ أنّ الرؤى والأحلام وأحلام اليقظة والتهويم هي من حالات اللاوعي التي يعود الإنسان من خلالها إلى الأحداث الماضية، والقناع ـ كما قلنا سابقاً ـ يتعلق بالماضي، على العكس من المرآة التي تتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل. فالحلم في قصص العقيلي نوعٌ من الهروب العكسي من الماضي إلى الواقع لأسباب نفسية.

أمّا الحوار فقد جاء عند العقيلي بنوعيه المعهودين: الخارجي والداخلي في أكثر من قصّة، وجاء في بعض المواطن ممزوجاً بين العاميّة والفصحى، ليزيد من واقعيته وليجذب القارئ أكثر. ومن الملفت أنّ المونولوج الداخلي كان طويلاً في قصّة وقت مستقطع، وذكر ذلك على لسان السارد: فقد انشغل ذهنه بمونولوج داخلي يعذّبه ص 64 . والحوار الداخلي بين الشخص ونفسه هو محاولةٌ لاكتشاف الحقيقة، هذه الحقيقة التي يبحث من خلالها البطل عن الأسباب التي جعلته يغيّر مساره المعتاد من طريق المنزل إلى طريق أخرى غير معروفة، وجعلته يتصرّف على غير العادة، كالوقوف إلى النساء المجهولات في الطريق، وتبادل أطراف الحديث معهنّ، وكانت نتيجة هذا المونولوج أنّه اكتشف الحقيقة، وهي أنّه يفعل خطيئةً لم يعتد عليها، وقد انتهت هذه الخطيئة بأن فتح هاتفه المغلق: «يا مصيبتي إن علمت زوجتي بأمرها… لن يرحمني أحد، سأخسر كل شيء… إنها خيانة». ص 64 .

أضف إلى ذلك الفراغ العاطفي والجنسي الذي يعاني منه البطل في قصّة وقت مستقطع، حيث إنه قد وقف بسيارته للمرأة في وقت الغروب ظنّاً منه أنّها من بائعات الهوى، على الرغم أنه ليس من الرجال الذين يأبهون للغواية. وهذا ما فسّره فرويد بطاقة الليبيدو libido ، وهي الطاقة التي تهدف إلى الإشباع واللذة، وفسّره ـ أيضاً ـ بنظرية الإسقاط أو الانعكاس the projection ، وهي التي تعني شعور الشخص بنقصٍ ما، فجاء النقص عند البطل هذه المرة عاطفياً جنسياً.

ومن الإشارات النفسية الحاضرة بقوة في المجموعة: العزلة، فقد تجسّدت ـ تحديداً ـ في قصّة تعايش، حيث لجأ البطل إلى بيتٍ بعيد، في منطقةٍ بعيدةٍ لا يعرف فيها أحداً ليعيش فيه وحيداً، اعتقاداً منه أنّ العزلة هي الحل الوحيد للراحة والسكون والوصول إلى المبتغى الذي يريد. وبعد أن اكتشف البطل أنّه كان مخطئاً، بدأ يخلق من السكون حركةً ومن الصمت صوتاً ومن الظلمة ألواناً ومن الموت حياةً، حتى انتهى به المطاف إلى الهروب من هذه الحركة المصطنعة، والهروب الكامل من البيت. ولهذه العزلة أبعادها النفسية، إذ تتمثل في الانطوائية التي يلجأ إليها البطل للهروب من المجتمع الذي يعيش فيه لأسباب بموازاة العزلة التي يريدها القاص ليحترف مهنة الكتابة جيداً دون إزعاجٍ من أحد، إضافةً إلى أسباب أخرى تبّينت في مواطن سابقةٍ من هذه المقالة. فكما قال عالم النفس يونج: إن الإنسان الانطوائي لا يتكيف مع وسطه على نحو وافٍ، وهو عكس الإنسان الانبساطي الذي له علاقة بالمعايير الجماعية الخارجية التي تمثل روح عصره. وبالتالي فإنّ اللاوعي الفردي عند القاص يفوق اللاوعي الجماعي عنده.

وللرائحة في هذا المقام دلالةٌ نفسية تجدر الإشارة إليها، وهي ـ تحديداً ـ الرائحة النّتنة التي انبعثت من الصندوق في قصّة وجه وأقنعة، فمن دلالاتها أنّها تساعد على تذكّر الأحداث الماضية، فهذه الروائح الكريهة الواردة في القصّة ساعدت البطل «أسعد» على تذكّر صفاته السيئة التي كان يتصف بها كالكذب والخيانة وغيرها، لكنّ البطل حاول التخلص منها وجزم على ألا يعود إليها، والدليل على ذلك أنه قد أغلق الصندوق بضيق ص 48 . أما اللون الأصفر الذي أعطاه السارد لصبيحة يومٍ أيلوليّ عكّره الغبار فيدلّ على الكآبة، ففي علم النفس نجد أنّ من يكره اللون الأصفر ليس لديه ثقة بنفسه، ويدل أيضاً على الخيانة والخوف والقلق والحزن والهم والذبول والكسل والموت والفناء، وهو أيضاً ـ كما قال كرم غطاس في كتابه الرمزية والأدب العربي الحديث ـ لون المرض والانقباض، ويرتبط بالحزن والتبرّم من الحياة والتحفز نحو عالم أطهر. وسياق القصّة يشير إلى كل هذه المعاني السلبية التي يدل عليها اللون الأصفر. أمّا اللون الأزرق الذي أعطاه السارد لستائر البيت الذي فرّ إليه بحثاً عن العزلة، فإنّه يدل ـ كما قال عمر مختار في كتابه «اللغة واللون» ـ على الخمول والكسل والهدوء والراحة، فنلاحظ أنّ بطل القصّة أحبّ العزلة، لكنّه سرعان ما وجد أنّها طريق إلى الخوف والموت الاجتماعي.

وبالإشارة إلى البكاء في نهاية قصّة تنازلات، نلاحظ أنّ البطل قد هرب في آخر القصّة إلى البكاء، من الظروف العائلية والمادية الصعبة التي يعيشها وكان يسعى إلى تعديلها نحو الأفضل، فالبكاء وسيلة للتنفيس عن الكبت والضيق من أجل الوصول إلى الراحة.

ومن المستهجن في مجموعة «كمّستير» أن نجد في نهايتها آراء لمجموعة من المبدعين والأكاديميين العرب، تتحدث عن تجربة العقيلي القصصية، إذ من المفروض أن تكون هذه الآراء خارج دفتي المجموعة، فمن الغريب على مبدع فذٍّ وحاذقٍ ومتمكن وذكيّ كالعقيلي أن يقوم بحشو هذه الآراء في ذيل المجموعة مهما كانت الدواعي.

وبعد هذا كله نقول: إنّ جعفر العقيلي مبدعٌ ملهمٌ بحقّ، يعرف ـ في الكتابة ـ من أين تؤكل الكتف، وكيف يصنع من نفسه علماً عربياً من أعلام القصّة القصيرة، وكيف يصنع من نصّه ملاذاً إلى القرّاء ليمارسوا معه لذّة القراءة. ويعرف أيضاً كيف ينسج الحكاية على مغزل القوّة وعلى نول التشويق، ويعرف جيداً كيف يحترف عزف الوصف على أوتار الأمان تارةً وعلى أوتار الخوف تارةً أخرى.

أكاديمي وناقد أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى