المثقّف الحقيقيّ

رولان رياض مشوح

بعد نشر المقالة السابقة تحت عنوان «من هم المثقفون؟» وصلنا عدد من الردود والتعليقات، وتباينت الآراء حول عنوانها وموضوعها، لذا آثرنا البدء بمقالة اليوم واختيار موضوعها من ردود القراء حول المقالة السابقة، ومن هذه الردود نذكر تعليقاً لقارئ وآخر لقارئة… جاء فيهما:

يعتبر القارئ أنه يتوجب علينا ابتداء التعريف بالمثقف، وأنّ ما أوردناه في مقالتنا السابقة حول تعداد للمثقفين ليس صورة حقيقية للمثقفين، إنما هو عبارة عن صورة لعدد من الأشخاص يمتلكون الخبرة والمعرفة بما يقومون به، وبالتالي يرى القارئ أنّ هناك فرقاً كبيراً بين المثقف والعارف بموضوع أو بأمر معيّن، فموضوع المثقف وتعريفه أمر غاية في الأهمية يجب أن ننطلق منه لنصل إلى ما نرمي إليه من موضوع مقالتنا السابقة، وإيصال فكرتنا حول باقي أنواع المثقفين.

أما القارئة فتقول: كنتُ أودّ أن تسلطي الضوء على المثقف الحقيقي المعتدل الحامل قضايا مجتمعه وهمومه، والذي يحاول ويسعى إلى التغيير في مجتمعه، وفي رأيها أنّ مثل هذا النوع من المثقفين شبه نادر وسينقرض قريباً رغم وجوده الحتمي، وفي رأيها أيضاً أنّ هذا هو المثقف الحقيقي الذي لا بدّ من أن نعرّف به.

لعلّ الردود التي وردتنا هي السبب الذي جعلنا نستجيب لرأي القراء ونقوم بتغيير مسار مقالة اليوم، بحيث تمّ اختيار موضوعها من ضمن آرائهم وتعليقاتهم، وتخصيص موضوع اليوم للتعريف بالمثقف، فمن هو المثقف الحقيقي؟

في البدء لا بدّ من الخوض بتعريف المثقف، حيث وجدنا أنّ له تعريفين: تعريف من خلال المفهوم اللغوي، وآخر اصطلاحي، فالمثقف كما جاء في قواميس اللغة العربية هو «المُثقَّف: اسم المفعول المشتق من الفعل ثَقَّفَ، ومعناه الرجل المثقف: الرجل المتعلم، أو من له معرفة بالمعارف. أما اسم الفاعل المشتق من الفعل ثَقَّفَ، ومعناه مثقف الأجيال: معلّم الأجيال، مهذّبها، مربّيها».

والمثقف بحسب المفهوم الاصطلاحي: هو ناقد اجتماعي، مهمته أن يحدد، يحلل، ويعمل على تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ مجتمعه النظام الاجتماعي الأفضل، الذي يكون أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية، فهو وحده الممثل للقوى المحركة اجتماعياً، ووحده من يمتلك القدرة على تطويرالمجتمع، وبالتالي تطوير أفكاره ومفاهيمه الضرورية.

المثقف وصْفٌ لا يقتصر فقط على العاملين في مجال الإبداع، وإنما يشتمل على مجالات الفكر والمعرفة كافة، وإذا ما حاولنا إعطاء تعريف أو تصوّر بسيط للمثقف الحقيقي، فلا بدّ لنا في البدء من البحث عن الصفات التي يتميّز بها هذا المثقف عن غيره من أنواع المثقفين الذين تحدثنا عنهم في مقالتنا السابقة كالمثقف الانتحاري، المثقف الحزبي، إلخ… ، وبعد مقارنة بسيطة بين أنواع المثقفين وجدنا أنّ المثقف الحقيقي يتمتع بعدد من الصفات نذكر منها: العقل المنفتح، عدم التعصّب الأعمى لرأيه، أو التشبّث به، وفرضه على الآخر، فهو لا يمدح، لا ينافق، يفرض عليك احترامه والاستماع إلى رأيه وإنْ كان على خلاف مع رأيك، لأنه يسعى دائماً إلى قبول الآخر ويمارس النقد الإيجابي. وحده قادر على التحليل وفهم ما يدور حوله من حوادث بصورة صحيحة ومنطقية. له دور كبير وتأثير إيجابي في الحوادث والمتغيّرات التي يمرّ بها وطنه، كما أنّ لديه القدرة على التفريق بين المعلومة وطريقة توظيفها ضمن السياق الصحيح. متنوّع المطالعة والقراءات، يدرك أنّ الثقافة بلا سقف. يمتلك ثقة عالية بالنفس، يؤمن بكلّ ما يقدمه من آراء ويسعى إلى أن تكون متطابقة مع مبادئه وسلوكه، ويبدو لك ذلك من خلال القضايا التي يتبناها.

قبل تقديم وصف بسيط لكلمة مثقف نؤكد أنّ هذه الكلمة لا نستطيع إطلاقها على أيّ شخص لا يتمتع بمؤهّلات غير عادية تؤهّله فعلاً لحمل هذه الصفة، فالمثقف الحقيقي هو ذاك الإنسان الذي تحمّل أعباء كبيرة واستغلّ أكبر قدر من وقته حتى يغدو واعياً الحياة وطبيعتها وتكويناتها، وليدرك حجمه لدى الآخرين، ويعرف كيف يقيس خطوات الآخرين إزاء خطواته، وهو يعمل ليلاً ونهاراً ليقدم شيئاً مفيداً إلى مجتمعه باعتراف الآخرين.

المثقف الحقيقي هو الذي يمتلك قدراً عالياً من الثقافة، وقدراً كبيراً من النظرة والشمولية، وقدراً واسعاً من الالتزام برأيه الفكري والسياسي تجاه مجتمعه، وهو المبدع القادر بإبداعه الثقافي أن يفصل بين الثقافة وعدمها، وبين التحضّر والتطوّر، وكما يقول جان بول سارتر «إنّ المثقف إنسان يتدخل ويدسّ أنفه في ما لا يعنيه».

من المؤكد أنه مهما بلغ حجم جيش المثقفين لن يكونوا جميعهم قادة أو سياسيّين، لكن من الضرورة بمكان أن يعي هؤلاء المثقفون دورهم المهمّ والأساسي في مسيرة المجتمع، وأن يسعوا دائماً إلى تثقيف أبناء مجتمعهم في معظم الأمور الحياتية، فالمثقف هو مبدع بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، ومنتج للإبداع، وصاحب موقف وإرادة ورؤية معمقة و»ليس كل متعلّم مثقفاً، وليس كلّ منتج للثقافة مثقفاً».

ما زالت مجتمعاتنا العربية في بحث مستمرّ عن هذه الفئة من المثقفين الحقيقين الواعين ليكونوا منارة المستقبل، بما يحملونه من معرفة وأفكار خلاقة وإبداع متميّز يسيطيعون من خلاله إغناء أبناء مجتمعاتهم وبناء مجتمعات متحضرة ومتقدمة.

محامية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى